لم يتوقع أنه من الممكن الضياع في أمريكا، بالأخص في بداية الليل، وفي مدينة مثل نيويورك، المعروفة بشوارع لها أسماء، وبشرايين عريضة وواضحة، ونقاط علام لا تخطئها العين - مغروسة في هذا الفضاء الكبير. مع ذلك وجد نفسه في حديقة بروسبيكت في الظلام دون أي فكرة عنها، ولا كيف يعود إلى شقة ابنته التي ستغضب منه جدا لتجوله بمفرده دون نقود أو خريطة أو بوصلة أو إلمام باللغة أو الثقافة أو أي وسيلة غير ذلك تتيح له العودة إلى البيت. مجددا في غربته - يشعر بالتقدم في العمر، وأنه ليس مسنا أو محبوبا، كما هو الحال في إثيوبيا، ولا شيخا يبحث عن دليل، ولا رجلا حكيما جاء من أميال طلبا للمعرفة، ولا مسنا يشهد على زواج العائلات وغيره من العقود والاتفاقات - بل هو شيخ مسن فقط. انتابه الشعور بالعمر وقلة الحيلة، والضعف، وهذا شعور جديد، أنه إنسان لا أحد يهتم به. جلس على مقعد في الحديقة، وكان النور يلمع فوقه. لا يوجد أشياء كثيرة جديرة بالمشاهدة في كل حال. وخنق هبوط الليل المشهد الساكن وجعله أبطأ مما كان يبدو في بيته المداري. كان الطقس باردا، في بواكير أمسية خريفية، وأعداد المشاة الذين يهرولون في الممرات يتناقص. وكذلك ركاب الدراجات العائدين إلى بيوتهم. والأولاد الذين يلهون في الخارج. جلس وحده في العتمة لساعة من الوقت حسب تخمينه، على مقعد دون طلاء وتحت ضوء الشارع الأصفر، ثم جاء رجل واحتل مقعدا بجانبه. كان الغريب يرتدي الجينز وحذاء خفيفا وسترة ملفوفة حوله. ورغب الشيخ أن يكلمه، ويسأله كيف يجد طريقه إلى قطار الأنفاق، فقد اعتقد أنه يستطيع أن يتبع أثر خطواته من هناك، وأن يعود بالخط الأخضر مقدار خمس محطات إلى الخلف. أشار الشيخ للأرض، نحو العشب الأخضر، ومد يده المفتوحة إلى الأمام، في محاولة ليسأل بالرموز عن قطار الأنفاق المتحرك. هز الغريب رأسه قليلا وقال:"أنت.. لا...تتكلم؟".
تكلم الشيخ بسرعة ليقول له إنه بمقدوره الكلام جيدا، ولكن كما توقع، لم يفهم الغريب حرفا مما قال. ولم يمنع ذلك الغريب من توجيه سؤال إلى الشيخ. غير أنه فهم كلمتين فقط هما "ال the" و"لديك have".
كرر الشيخ: "لديك؟".
أشار الغريب إلى معصمه، فنفض الشيخ رأسه وتذكر أنه تخلص من ساعة معصمه حالما وصل قبل عدة أيام، وعزم أن يلفها حول معصمه مجددا بعد ضبط التوقيت، ولكن كان عليه القيام بإجراءات كثيرة حينما حط في المطار، ثم أرادت ابنته تعرفه على أشياء كثيرة: التسوق والمشاهد والمباني والمصاعد. ثم تابع الغريب أسئلته، ولم يفهم الشيخ منها غير الكلمتين السابقتين:"ال"، و"لديك".
وكرر الشيخ:"لديك؟".
أبرز الغريب محفظته وأشار للشيخ. هز الشيخ رأسه، فقد ترك محفظته مع ساعته، منتفخة بنقود عديمة النفع. سأله الغريب أسئلة متتالية، وفهم الشيخ كلمة "ال" و"تعطي" فقط.
قال:"تعطي؟".
أخرج الغريب مدية ورفع محفظته بيده.
قال الشيخ "تعطي"، وأشار لمحفظة الغريب، ثم صنع إشارة تدل على هاتف. اضطرب الغريب أولا - فالشيخ على الأقل لم يظهر علامات الخوف - ثم شعر بالتحنان والشفقة عليه، وهي أحاسيس لم يعتد الشيخ عليها، ولا يرتاح لها. لكن قاده الغريب إلى هاتف مهمل للعموم كان تحت نور ساطع في هذا الليل. وبحث عن القليل من القطع النقدية، وانتظر حتى طلب الشيخ رقم هاتف ابنته. وبدأت تؤنبه وتصرخ فورا على الطرف الآخر من الخط، حتى حركت لديه المزيد من المشاعر غير المريحة التي لم يعرفها من قبل، ولا يدرك ما هي تحديدا، ثم سألته عن موضعه. لكنه لم يعرف، ومرر الهاتف إلى الغريب، وسمعه يقول كلاما لم يفهم منه أي شيء، إنما توقع أنه عن اتجاه هذا المكان.
أخرج الغريب علبة بطاقات بانتظار وصول ابنة الشيخ، وبدآ معا ببناء بيت، وبتبادل الكلام دون أن يفهم أحدهما من الآخر سوى موسيقا لغة غير مألوفة وتحتاج للترجمة. ثم أخبر الغريب للمسن، بلهجته السريعة والمتدفقة، عن حنينه لجده. أما الشيخ فقد أخبره بأصوات بطيئة وعالية النبرة عن آخر مرة واجه بها هجوما بالسكين، وكيف تخلص منها وفي يده إذن المسكين المتعدي - بالحرف الواحد- وسيارته، ودوطة ابنته. تداعى مجسم البيت بينهما، وبدأ الغريب بحكاية جديدة عن الإدمان على المقامرة، وهدر الوقت، حتى هجرته زوجته. وفي نفس الوقت روى الشيخ قصة عن آخر مرة سطا بها على رجل وهدده بالسلاح، وبهذه الطريقة، تمكن من تأمين شقة جديدة، هي عبارة عن صالة صغيرة وأنيقة، ويفترض أن خليلته المغتربة لا تزال تنعم فيها بالسعادة حتى يومنا هذا. تكوم مجسم البيت، واعترف الشيخ أنه تخلى عن كل الثروات في العالم ليبدأ مجددا. وانهار بيتهما مرة ثانية، وعاد إلى حكايات الحنين والخداع ومفاجآت الأحوال المادية. ولوح الغريب بيديه وكأنه يفتش عن شيء بمصباح يدوي. وتوقع الشيخ أنه يتكلم عن السيف. وحرك الشيخ ذراعه مثل حية نهرية سامة تتلوى، واعتقد الغريب أنه يشير إلى حركة مد وجزر.
حينما جاءت ابنة الشيخ المسن بسيارتها الفولفو، وأسرعت بارتباك إلى والدها، عاودت الصراخ فورا، وانتاب الشيخ السرور لأن الغريب لم يفهم كلماتها. هز العجوز رأسه بصمت للغريب قبل أن يتحرك نحوها، فعانقته باشتياق. ثم قدمت للغريب ورقة بعشرين دولارا لشهامته، فرفضها بتهذيب. وحاولت الابنة أن تلح، ولكن الشيخ ردعها، فشكرت الغريب ببساطة، وتوجهت إلى سيارتها.
وضع الغريب قبعته على رأس العجوز، وابتعد حتى تجاوز ضوء الشارع الأصفر المشع، واختفى في طبقات الظلام. وأوشك العجوز أن يخبر ابنته بفكرة عابرة، ولكن أخره صوت المحرك. وعاد للكلام لاحقا وقال: "أحيانا يضيع الإنسان في الظلام، ولكن إن كانت لديه حيلة، يمكن أن يستغلها أفضل استغلال". بمعنى أنه شاهد معجزة صغيرة في الوقت المناسب، وكذلك، ومع أنه لا يعرف اللغة، استطاع أن يقلب الطاولة، فقد كانت جيوبه فارغة، ولكنه ربح القليل من النقود من لص مسلح دون جهد وبالاعتماد على فطنته وحركات يديه. وأعجبه هذا الكسب الذي أحرزه، لكن ابنته كانت تسرع إلى موقف السيارات، وهي تحاول أن تتذكر اللوازم التي نسيت أن تشتريها في آخر زيارة إلى المخزن.
ميرون هاديرو Meron Hadero: قاصة أمريكية مولودة في أديس أبابا.
ترجمة صالح الرزوق
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات