كانت مدينة لينينغراد تنساب في الأفق كمتحف اسطوري تحت سماء صافية، تأملتها هكذا وأنا أرنو إليها من خلف نافذة عربة القطار. عدت الى مقر إقامتي بعد ان انتهيت من زيارتي التطبيقية في المستشفى في المدينة السياحية عند ميناء مورمانسك المشهورة بظاهرة الشفق القطبي. حدث هذا في عام 1966.
وانا في طريق العودة إلى المنزل مررت على السوق لشراء بعض الحاجات الضرورية. كان السوق يعج بالناس والحركة بطيئة. وفي وسط هذا الحشد البشري، صادف ان التقيت صديقي عادل الذي يسكن في الطابق الخامس وبينما كنت أنا اسكن في الطابق الرابع من مباني الطلاب، بعد ان رحب بعودتي من السفر. قال وهو يمد يده ليصافحني:
اجبته:
قال:
قلت:
قال:
بعد ان انتهيت من التسوق عدت ادراجي الى المنزل. كانت المفاجأة عظيمة وغير متوقعة، شعرت بالنهار ينهمر على كياني كحلم بحيث ازال الارهاق الذي رافق رحلتي، ان أجد صديقتي بارنو في انتظاري، تعلو كشمس الصباح: وهي فتاة من طشقند عاصمة اوزبكستان. حالما ظهرتُ أمامها منتصبا ارتسمتْ ابتسامة عريضة على شفتيها النديتين وتعانقنا.
نظرت الى عينيها السوداوين الواسعتين والدموع الرقراقة فيهما تعكس ابتسامتي فرحا بوجودها بعد غياب طال زمنا. تكاثف الصمت في الطابق الثاني لبرهة وكأن الخطوط اللامرئية بيننا تنقل مشاعر الود عبر الأثير، تحمل بين طياتها اكوام الاشتياق.
لقد أعادني هذا اللقاء غير المرتقب الى زمن جعلني افتح صندوق ذكرياتي مجددا، وان اتطلع الى بدايات الستينيات، عندما كنت شاباً في مقتبل العمر يخوض غمار تجربة فريدة في بحر الحياة الجديد المشرق، في بلد طالما حلمت بزيارته. بلد يتطلب من الفرد ان يتأقلم مع ثقافات جديدة، ولغة اجنبية غريبة عني، بل هو عالم يفتح امامي طريق المستقبل الواعد والطموح الممهد.
يجب على المرء ان يتعلم اللغة الروسية قبل دخول الجامعة. لذلك بدأت مسيرتي الأكاديمية في جامعة اللغات كمرحلة تحضيرية في طشقند. في هذه الجامعة بالإضافة الى اللغة الروسية، كانت هناك أقسام للغات أخرى بما في ذلك اللغة العربية. لقد ضمت الجامعة في اروقتها طلاب من جميع انحاء العالم وكذلك من جمهوريات الاتحاد السوفيتي.
قررت عمادة الجامعة تخصيص يوما للطلاب من اجل التعرف على بعضهم البعض. وقد تم ذلك بالفعل في أمسية احتفالية لا يمكن للذاكرة محوها، خاصة عندما سقطت عيني في وسط هذا التجمع الطلابي على فتاة متوسطة القامة ذو مظهر شرقي، تتميز بالرصانة والاتزان. لا يلفت لبسها اي انتباه، كانت ترتدي فستان بني اللون مزركش بمربعات حمراء يغطي جزء قليل من الركبة. اما شعرها فكان يميل الى اللون الكستنائي.
مشيت نحوها بخطوات بطيئة حتى دنوت منها حيَّتها باللغة الروسية لانني كنت قد تعلمت بعض الجمل البسيطة. قلت:
رددت بنبرة نسائية لطيفة:
قلت بالروسي:
قالت وهي تمد يدها الناعمة باتجاهي:
قلت بالروسية:
فاجأتني بقولها وابتسامة عريضة على محياها:
ساورني شعور الفرح عندما تحدثت العربية لان كلماتي الروسية قد نفدت وقلت:
قالت:
عندما رأيت بعض الشباب يرقصون مع معارفهم وصديقاتهم، تجرأت على دعوتها للرقص معي.
قالت وابتسامة بهيجة تضيء وجهها:
وأثناء الرقص قالت:
وأردفتْ قائلة:
بعد هذه الأمسية الجميلة استمرت لقاءاتنا وتضاعفت جهودنا نحو تطوير لغتنا. لقد ساعدتها كثيراً في تطوير اللغة العربية وتنمية تقبلها الحسي لجوهر اللغة حتى تمكنت من الحصول على وظيفة بصفة مذيعة في قسم اللغة العربية في إذاعة اوزبكستان. لقد تم تكليفها بقراءة النشرة الإخبارية باللغة العربية.
مكثتُ في طشقند لمدة عام لدراسة اللغة وانتهت المرحلة التمهيدية، عدت الى دراستي الحقيقية في كلية الطب في لينينغراد. خلال تلك الفترة تواصلنا مع بعضنا البعض عبر الرسائل البريدية، وكانت هناك فترة انقطاع عرضي بسبب دراساتي العديدة والتطبيقات العملية في المستشفى.
قلت لها:
قالت:
قلت لها:
قالت:
كان هذا اللقاء لقاءً حميميا بل أستطيع القول الوفاء اللامتناهي الذي يتسم به هؤلاء الناس. أمضينا وقتا ممتعا ونحن نمشي جنبا الى جنب في هذا الليل المعتدل والرائع في شوارع لينينغراد.
طفقنا نتحدث ونتذكر ايام طشقند وحدائقها الجميلة ومطاعمها المتميزة بأكلة البلوف ومراقصها البهية الهادئة ومسابحها الواسعة. ثم افترقنا في المساء واتفقنا على ان نلتقي غدا عند محطة القطار الى موسكو.
وفي اليوم الثاني بالفعل التقينا وجلسنا في بوفية جميل وتناولنا الافطار وتحدثنا عن حياتها الحالية ومشاريعها المستقبلية. ومشينا نحو رصيف القطار المتجه الى موسكو. توقفنا للحظة في انتظار وقت المغادرة. وبينما كانت تتحدث، وفجأة تهدج صوتها فاكتست هيئتها سيماء الحزن. كان تتكلم والكلمات تنسال من بين شفتيها بتأنِ وأسى. قالت:
انهمرت الدموع من عينيها. شعرت بغصة وحسرة في نفسي. وسالت المشاعر في متاهة الحزن. التقطتْ صورة لها من حقيبتها اليدوية وسلمتها لي ولكن قبل ذلك كتبت عليها.
ثم قالت:
في هذه اللحظة امتزجت العواطف وأصبح ذهني مشلولاً، وكأن كلماتي غرقت في لعاب فمي امام كلماتها الصادقة والمعبرة عن ذاتها الإنسانية.
قلت لها:
كانت امرأة في الخمسينيات من عمرها واقفة على جانب الرصيف تبيع الزهور. اشتريت منها باقة من الورود الحمراء وقدمتها لها كهدية لذكرى هذا اللقاء الرائع. قبلتني وقبلتها فكان ذلك اللقاء هو الوداع الأخير.
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
18-12-2022 12:03
قصة معبرة وجميلة.
وتبدو لي وكأنها استمرار للواقعية الايجابية - نهايات واضحة ليست سلبية. وتدعو للتفكير بالمستقبل.
انتقد محي الدين صبحي هذا الاتجاه في كتابه دراسات ضد الواقعية و اعتبره اتجاها يسخر من ذكاء الانسان الطبيعي الذي تنحدر حياته وتنكسر و يجد نفسه على محيط دائرة محزنة.
ولكن انتقد واقع التجربة الاشتراكية صنع الله ابراهيم في عملين هما برلين ثم - الجليد . وهي رواية عن طالب مصري يعيش في السكن الطلابي في موسكو. واكثر من نصف الاحداث تدور في السرير. مع تعليقات حادة ضد الحصار المفروض على حرية الانسان.
على ما يبدو ان الجدل لن ينتهي و لا سيما ان الرأسمالية لم تقدم الحل السحري لمشاكلنا. و قهر السوق و التفتيش عن عمل يطحن حرية الأفراد ويضعها في دائرة من الشوك مثل تاج الشوك على رأس السيد المسيح.
لا نزال بانتظار اليوتوبيا الموعودة.
هل يحققها جيل الوردة الحمراء المتوقع.
19-12-2022 12:05
شكرا جزيلا لذائقتك الطيبة و إعجابك بالقصة . نعم اصبح الانسان في عصرنا الحالي تنتابه الحيرة في اختياراته لطبيعة المنظومة التي تتناسب وفق رغباته وطريقة تفكيره . حتى الناس صاروا ينتقون الاسوء لانهم يعتقدون انه لا يوجد الافضل. وهذا هو حال الشعوب . فطموحات الانسان لا حدود لها تمتد في نفق طويل لا نهاية لها. دمت بالف خير
20-12-2022 12:02
الاديب القدير الاستاذ كفاح الزهاوي
حبكة فنية شفافة في واقعيتها وسردها الحدث بهذه المتعة التشويقية , وهي من حكايات الماضي ونكهة الشباب آنذاك . تبقى حكايات وتجارب ايام الشباب حلوة في مذاقها , من مرارات الحاضر ومشاكله في عالم مضطرب فقد بوصلته . واقع سيء حين يهدر الحياة الانسانية بشكل رخيص وزهيد ....
تحياتي صديقي العزيز وبمناسبة اعياد الميلاد والعام الجديد , اتمنى كل الخير والصحة , وكل عام وانت بالف خير
20-12-2022 12:06
الناقد القدير الاستاذ جمعة عبدالله تحايا بحجم الفضاء.
تغمرني السعادة عندما اجد بصمتك الذهبية تضيء جوانب قصتي بافكارك الجميلة واطروحاتك الصادقة والمعبرة. ممتن لك صديقي الاعز وتمنياتي لك بالمثل. دمت بالف خير
20-12-2022 12:06
الناقد القدير الاستاذ جمعة عبدالله تحايا بحجم الفضاء.
تغمرني السعادة عندما اجد بصمتك الذهبية تضيء جوانب قصتي بافكارك الجميلة واطروحاتك الصادقة والمعبرة. ممتن لك صديقي الاعز وتمنياتي لك بالمثل. دمت بالف خير
20-12-2022 12:06
الناقد القدير الاستاذ جمعة عبدالله تحايا بحجم الفضاء
تغمرني السعادة عندما اجد بصمتك الذهبية تضيء جوانب قصتي بافكارك الجميلة واطروحاتك الصادقة والمعبرة. ممتن لك صديقي الاعز وتمنياتي لك بالمثل. دمت بالف خير
لا يوجد اقتباسات