عندما توفِّيَ صديقي سيدي محمَّد، أحسستُ بالوحدة تحاصرني من جميع الجهات، ولم يَعُد لي مهربٌ منها. فقد كنتُ، قبل وفاته، كلّما ضاقت نفسي وشعرت بالغربة تهبط على روحي مثل غيمة سوداء، أسرعتُ إلى شقَّته دون موعدٍ سابق، فكان يفتح لي الباب مرحِّبًا باسمًا مسرورًا، ويُكثِر من الترحاب بي، ويسألني عن أحوالي. ثُمَّ يتّجه إلى المطبخ، فيضع إبريق الماء على الموقد لإعداد الشاي، ويملأ صحنًا بقطع الحلوى المغربية: كعب الغزال، المحنّشة، القطايف، ثمَُّ ننقل كلَّ شيءٍ من المطبخ إلى غرفةِ الجلوس، ونشرع بالحديث وتناول كؤوس الشاي بالنعناع مع الحلوى. وبعد ساعةٍ من حديثه الحلو المليء بالنوادر والطرائف، أشعر بالارتياح، كما لو كان ذلك الإحباط الذي أثقل روحي قد انزاح شيئًا فشيئًا، حتّى غدا قلبي خفيفًا يستطيع مسابقة الريح. فأنهض مستئذِنًا بالانصراف لأعود إلى أشغالي. وهنا تثور ثائرته، لأنّني لم أبقَ معه ما فيه الكفاية، أو كما كان يقول محتجًّا: " ما سلّم حتّى ودّعا."
أمّا اليوم، وبعد أنْ غيّبه الموت، فلا أدري أين اتَّجه، إذا ما داهمني الشعور بالغربة والوحدة، ولا أعرف بِمَن أحتمي. فقد كان سيدي محمد صديقي الوحيد، وملاذي في هذه المدينة. صحيحٌ أنّ لي كثيرًا من المعارف الطيِّبين فيها، ولكنَّني لم أشعر تجاه أيٍّ منهم بما أشعر به من رفع الكلفة مع سيدي محمد. لم أكُن أستطيع أن أُفضي بمكنون قلبي للآخرين، أو أكاشفهم بآلامي وآمالي وما يثقل روحي. أمّا سيدي محمد فقد كنتُ أحسبه واحدًا من أهلي، أطمئن إليه ويطمئن إليّ، وأرتاح إليه كما يرتاح إليّ. وكان التفاهم بيننا تامًّا. لعل ظروفنا المتشابهة وأحوالنا المتماثلة هي التي يسّرت ذلك التواصل بيننا. فقد تربَّينا في عائلتيْن محافظتيْن، وتعلّمنا في مدارس متشابهة، وتخصَّصنا في موضوعاتٍ متقاربة، وزاولنا مهنةً واحدة.
وعندما كنتُ أزوره في المستشفى في الأيام الأخيرة من حياته وهو يصارع ذلك المرض الوبيل بشجاعةٍ نادرة، لم أكُن أدري ما أقوله له، فقد استنفدتُ جميع كلمات الأمل وجميع الأخبار السارّة. وحينما أجده وحده في غرفته، نأخذ في النظر أحدنا إلى الآخر، وتهرب الكلمات من شفتَيّ، وأحسُّ بالدموع تنزُّ من أعماقي إلى جفوني، فأُسرع خارجًا من الغرفة وأنا أنادي: " أين الممرِّضة؟"، لأُخفي دموعي عنه لئلا أزيده حزنًا على حزن. ولعلَّ حزني ذاك كان من قبيل الأنانيّة، فقد كنتُ أتوقع ما سيحلّ بي من وَحدةٍ وغربةٍ بعد رحيله.
ووجدتني ذات مساء أقف عند سريره وشفتاي تتمتمان بآيات من القرآن وتمجّان ملوحة دموعي. وأسلمتُ أمري إلى الله. وعزيّت نفسي قائلاً لا مفرَّ من الموت وكلُّ النّاس وارده. ولكنّني بقيت أشعر بالوحدة، حتّى عندما أكون محاطًا بعشرات الأشخاص.
وبذلت جهدي كي أنساه، فقد مرّ عامٌ كاملٌ على وفاته وصورته ماثلةٌ في عيني، وهيئته شاخصةٌ في قلبي، وصوته ملء أذنيّ. وخشيت أن أُصاب بالاكتئاب، فقد قرأت آنذاك أنَّ الكاتبة اللبنانيَّة مي زيادة قد أُصيبت بالاكتئاب بعد أن توفّي والداها وتوفّي الأديب جبران خليل جبران الذي أحبَّته بالمراسلة. ولهذا ابتعدتُ عن المدينة في عطلة لبضعة أسابيع أمضيتها على شاطئ البحر، لعلّ محيطُه الشاسع يتّسع للأسى الجاثم على روحي، أو لعلّ أمواجه تغسل الحزن الرازح على قلبي. وهناك درّبتُ نفسي على أن أصرف ذهني عن مأساة صديقي سيدي محمد. كنتُ أُغرِق نفسي في التفكير بأشياءَ أُخرى، بمشاريعَ ثقافيةٍ يحتاج الإعداد الذهني لها ساعاتٍ طويلة. وبعد التمرين المتواصل على صرف التفكير إلى المستقبل بدلاً من الماضي، هنّأتُ نفسي على نجاحي في ذلك وعدتُ إلى المدينة.
في تلك الليلة، استطعتُ أن أغمض عينَيّ دون عناء، ودون أن أكابد عذاب السهد الذي كان ينتابني في ذلك الفراش. كنتُ أقرأ في رواية " جارات أبي موسى " للكاتب المغربيّ أحمد التوفيق، وراح النعاس يثقل أجفاني وسقط الكتاب من يدي جانبًا وغفوتُ.
في تلك الليلة ألمّ بي حُلم بهيج. رأيتُ نفسي أسيرُ في مرجٍ أخضرَ واسعٍ، تجري فيه سواقٍٍ عديدة يترقرق فيها الماء جَذِلاً صافيًا، وتنتشر فيه أشجار الحور والزيزفون والصفصاف والسنديان، وفي ظلالها ازدهرت أزهار الورد والقرنفل والقدّاح والياسمين. وراحت العصافير والعنادل وطيورٌ أُخرى تحلّق من شجرة إلى أُخرى، وهي تزقزق وتغرّد. ولاح لي في آخر المرج قصرٌ منيفٌ له قبابٌ خضر، وسورٌ أبيض منخفض، تسلَّقتْ عليه شجيراتُ اللبلاب، وتوسَّطه بابٌ خشبيٌّ أزرقُ موارب.
قصدتُ القصر. اقتربتُ من بابه. ودخلتُ. أذهلني منظر حديقته وطرازها المغربيّ الأندلسيّ، والينابيع المتدفِّقة من صخورها، والنافورات التي تتوسَّطها. ذكّرتني بحديقة "جنة العريف" في قصر الحمراء بغرناطة. واصلتُ السير حتّى بلغتُ بركةً غاية في الحُسن والبهاء، وإلى طاولةٍ أُقيمت على حافتها، كان يجلس ـ لشدَّ دهشتي وفرحتي في آن ـ صديقي سيدي محمد.
ما إن رآني حتّى نهض هاشًا باشًا كعادته. تعانقنا فرحيْن باللقاء. راح يسألني عن أحوالي. طمأنته. ثُمَّ سألته ببلاهة ما إذا كان يحتاج لأمرٍ أقضيه له هناك. تردّد لحظة، ثمَّ قال: نعم أرجوكَ أن تجمع مقالاتي المُتفرِّقة التي كتبتُها عن المغرب، وتنشرها في كتابٍ واحد. وعدتُه بحماسة أنّني سأفعل، قائلاً: اطمئنْ، أعِدكَ بذلك. وكان من حماستي أنّني ضربتُ بقبضة يدي على الطاولة التي أمامه مؤكِّدًا وعدي، فأخذ فنجان الشاي الذي أمامه يرتجف على الطاولة مُحدثًا جلجلةً مثل جرس.
كان جرس الهاتف يرّن في غرفة الجلوس. استيقظتُ. اتجهتُ إلى مكان الهاتف والحُلم واضح أمام عيني. وأخذتُ ألوم نفسي قائلاً: كيف أعِدُ صديقي سيدي محمد بِجمع مقالاته وهي متفرِّقة في مكتبته الشخصيّة في دارته في شفشاون، وأنا أتحاشى دخول تلك الدارة منذ وفاته، ولا أظنّني أطيق رؤيتها مرَّةً ثانية. سيقتلني الحزن فيها.
رفعت سماعة الهاتف قائلاً :
ـ نعم؟
ـ أنتَ لا تعرفني، يا سيدي، ولكنّني أعرفك. اسمي الخرشاف. قمتُ وبعض زملائي من قدامى طلاب الأستاذ سيدي محمد بجمع مقالاته التي كتبها بالإنكليزية عن المغرب، وترجمناها إلى العربية بقصد نشرها في كتابٍ واحدٍ إكرامًا لذكراه. ونحن نرجوك مساعدتنا في مراجعة الترجمة.
ـ سأفعل بكلِّ سرور. شكرًا، شكرًا لكم.
ـــــــــــــــ
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات