لم يلاحظ ذلك أحد، كنت أرتدي سترة شقيقي، وأحيانا حذائه، أرش على جسدي من عطره النفاذ، وأضع في معصمي ساعته الفضية الثمينة. مرّ على وفاته عام واحد. غرفته لازالت بخير، شراشفه تحتفظ برائحة مسحوق الغسيل، وقلمه لازال ملقىً بلا اهتمام على الطاولة قرب رواية الصخب والعنف، حيث اعتاد كتابة تعليقاته أثناء القراءة على صفحات الكتب. حتى منشفته لازالت مبللة من بقايا الماء على وجهه. صديقتي لا تصدقني! لم أعد أخبرها أيّ شيء عن غرفته وعني، في الحقيقة لم أعد أخبر أحدا كيف أن كلّ شيء يبدو كما كان قبل عام. كنت في كثير من الليالي اتسلل إلى غرفته، لأختار قميصا أرتديه، أو أخذ قطعة حلوى من العلبة المحفوظة في خزانته. أفعل ذلك بحذر تام، فهو لم يكن ليسمح لي أبدا بدخول غرفته ومس حاجياته. لم تكن لدي غرفة خاصة بي. لازلت أذكر كيف توسلت إليه أن يسمح لي بوضع سرير لي في غرفته، ذكّرته أنني توأمه، وأكدت له أنني سأكون هادئة تماما، لكنه رفض بحزم فكرة تقاسم الغرفة معه.
اليوم غرفته فارغة، في الحقيقة ليست فارغة تماما، أشياؤه لازالت فيها ندية، علبة الحلوى مثلا لا تنفد، وآخر استكانة شاي بقيت للمنتصف، حيث كانت آخر ما شربه، قبل أن يرتطم رأسه بالطاولة، منزلقا في الغياب. كان رحيلا هادئا مذهلا لولا أن خدشه صراخ أمي، كدت أطلب منها الصمت فهو يحب الهدوء والعزلة، ويكره الصراخ والصخب.
عندما أخذوه بعيدا كنت في غرفته. شعرت للحظة أنها لي، بهذا السرير الأنيق، والمكتبة الكبيرة، والملابس في الخزانة، وهاتفه وحاسوبه الجديد، حتى وجهي في المرآة بدا وجهه هو.
كثيرا ما كان الناس يخلطون بيننا في طفولتنا، كنا نقص شعرنا بذات الطريقة، ونرتدي ملابس متشابهة. ثم لا اعرف كيف تغير مرة واحدة، بعد أن حصل على تلك الغرفة، وبدأ بقراءة الكتب.
قلت لأمي أني لا أريد النوم فيها. لم أشرح لها أنه لازال يريدها، ويريد كتبه وأشياءه، هي لن تفهم أبدا، أنه لازال يأتي في بعض الليالي ليشرب بقايا الشاي ويأكل بعض الحلوى ويقرأ في رواية الصخب والعنف ويدون الملاحظات حولها.
بالأمس مثلا جاء بعد الثانية عشرة، مرتديا بجامته الزرقاء الغامقة وفانيلته البيضاء بالأكمام الطويلة، دخل إلى الغرفة بعد أن ألقى عليّ نظرة طويلة معاتبة، لم يقل شيئا، مضى وجلس يشرب الشاي بهدوء والكتاب بين يديه. ارتجف قلبي قليلا وأنا اسأله ما إذا كان رحيلهُ مؤلما؟ كان هذا أكثر الأسئلة إلحاحا
-ألا تعرفين حقا!
- وكيف أعرف؟!
-لكنك كنت معي! هل نسيتِ؟
كنتُ قد حملتُ له كوب الشاي بيدي،
غرفته دافئة وموسيقى عمر خيرت كانت تبعث في الغرفة جوّا مذهلا من السكينة والشغف. لازلت أذكر أنه كان منهمكا في كتابة ملاحظاته على حواشي الكتاب. لم يعر لوجودي اهتماما كبيرا، حتى إنه لم يشكرني على كوب الشاي. لقد كان يزيح خصلات شعره الناعمة عن جبينه ويواصل القراءة والتدوين كأني غير موجودة. مددت يدي بحركة لا إرادية لخصلات شعري وجعلتها على جبيني ثم رفعتها. إنها لحظة مناسبة لأطلب منه تقاسم الغرفة معه، بدا سعيدا وهو يصغي إليّ، لكنه ما لبث أن قام من مكانه ساكتا، وجلس قريبا مني. إنها طريقته في قول لا.
كم كان مكتبه مغريا لي. على الأقل أستطيع تجربة بعض اللحظات، في أعلى الصفحة كان مكتوبا (ليس لديهم حظ في هذا المكان. قال روسكوس)، طعم الشاي كان رائعا، لولا أن غمامة سوداء أطبقت على عينيّ، وقوة هائلة جذبتني للأسفل، ما عدت أشعر بشيء حولي، حتى هو توارى بعيدا. وحدي انا كنت هناك، في كلّ يوم أجيب عن سؤاله الساذج: كلا لم يكن ثمة ألم كبير.
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات