في ليلة بطقس شتاء من أعلى الليالي قسوة، تكدر مزاج فارس، المسجى على فراشه الأرضي في غرفة دارته القروية. أشعل الفانوس، وابتأس من أوضاع نوم إخوانه وأخواته الكثر الشبيهة بافتراش الثرى. أحس كأن رأسه انفصل عن جسده بسبب اشتداد صراع حواسه وتناقضات تفكيره المخلخلة لمعتقداته. غادر النوم أجفانه، واستسلم لآلام نوستالجيا السنوات الفارطة.
تذكر عطايا أبيه لما يسمى الشرفاء من الفرق العيساوية آكلي أشواك نبات الصبار، وأولاد احمر شاربي الماء المغلي. استرجع بالتفاصيل مصاريف الليلة التي يحييها الأب لهؤلاء كل موسم حصاد. لم يستسغ ما يراكمه رؤساء هذه الفرق من مال كل سنة.
قفز منسلا من الفراش رافسا الغطاء برجليه. جهز البغلة بلوازمها المعتادة. اختلس من مخزن أبيه قنطارا من القمح الصلب. وضعه على البغلة وتوجه على الساعة الثالثة صباحا إلى المدنية.
بعد ساعتين، أوقف البغلة بحمولتها بعيدة بأمتار عن منزل النقابي العمالي أبو نضال. تسللت الرهبة إلى قلبه، لم يدر في خلده إلا مروءة ومواقف هذا الرجل الفذ الذي يعمل معه كمياوم في ضيعة الإقطاعي العمراني. لم يفكر في فعلته وما اجترحه من ذنب مفترض، أرن الجرس، وخرج أبو نضال متوجسا ومرتبكا يفرك في عينيه. تعانقا بحرارة، همس له فارس بكلمات معدودات، ونادى البغلة مسعودة، فهبت في اتجاه الباب. زم أبو نضال شفتيه وفرك يديه، طوى ركبتيه وجلس على كعبي رجليه، وضع راحة يده اليمنى على جبينه، فانهمرت عيناه دموعا عزيرة.
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات