سأُحدِّثك عن ما وقع لي في اليوم الأَوَّل من الدراسة، إذ ما زلتُ أَحتفظ بتلك الواقعةِ حيَّةً في خاطري، لأنَّ الأيام الأُولى في حياة أيِّ إنسانٍ هي بمثابة الجذور في دنيا النبات.
كان ذلك في يومٍ من أيام أيلول/ سبتمبر، وكانت أُمِّي قد أيقظتني في الصباح الباكر على غير عادتها:
ـ انهضْ، ستذهب هذا الصباح إلى المدرسة.
ـ صحيح، ماما؟
وقفزتُ من الفراش رافساً الغطاء برجلي. وبينما كنتُ أغسل وجهي كانت أُختي الكبرى تُعِدّ لي بذلتي الجديدة التي كنا قد احتفظنا بها لألبسها في هذه المناسبة. ولم أجد في نفسي ـ لفرط فرحتي ـ ميلاً لتناول الفطور، فأخذتُ لقمةً أو لقمتيْن تحت إلحاح الجميع. لقد كان للمدرسة إجلالٌ وروعةٌ في نفسي. كنتُ أرى والدي يُمضي معظمَ لياليه في قراءة الكُتُب على ضوء الفانوس النفطيِّ، وهو يرتدي نظاراته الطبيَّة. وكلَّما سألتُه عن ما يقرأ، كان يجيبني ذات الجواب:
ـ ستعرف ذلك، يا ولدي، عندما تذهب إلى المدرسة.
وعندما ينتهي من قراءته، يضع كِتابه على رفٍ عالٍ لا تصل إليه أيدينا، نحن الأطفال.
كنتُ غالبا ما أذهب إلى ضفة النهر مع عددٍ من أطفال القرية لنشاهد بناية المدرسة التي كانت تقع على الضفة المقابلة، وتختلف من حيث حجمها وشكلها عن بيوت القرية جميعها. وكنا نطلق الضحكات عند سماع رنين الجرس العجيب، وهتاف التلاميذ بالنشيد، وقد تجمعوا في باحتها الواسعة فيردِّد التلُّ الرابض إلى جوارها أصداء هتافهم. كنّا نعجب بما يجري في المدرسة ونتناقل الروايات العجيبة عنها.
وتناول أبي يدي وسار بي نحو المدرسة، فكنت أهرول كي أستطيع اللحاق به. وما إنْ بلغنا الجسر حتّى وجدنا قطيعاً كبيراً من الماشية والجِمال يقف عند رقبته، فقد كان الجسر مقطوعاً لخللٍ فيه. وعلى مقربةٍ منه، رسا قاربٌ صغيرٌ ذو مجدافين لنقل العابرين إلى الضفة الثانية. وحملني والدي بيديه ووضعني في القارب الذي أقلنا عبر النهر. وكانت تلك هي المرة الأولى التي أركب فيها قارباٌ، لأنَّ عالَمي آنذاك كان يبلغ نهايته عند شاطئ النهر. وامتلأت نفسي زهواً وأنا أرى القارب ينساب كالوزَّة على صفحة الماء.
ودخلتُ مع والدي غرفة مدير المدرسة، وكان رجلاً نحيف البنية على عينيْه نظّارةٌ سوداء. فسألني عن اسمي وعمري ودوّن ذلك في سجل لم أَرَ أكبر منه من قبل. وبعدها غادر والدي المدرسة وتركني في باحتها تلفُّني خشيةٌ وحيرة. ودقَّ الجرس، ودخلتُ مع التلاميذ الجدد إلى الصفّ (قاعة الدرس)، وجلسنا على مقاعدَ خشبيَّةٍ صغيرة. ووقف في مقدِّمة الصفِّ أكبرُنا سنّاً وأقدمنا عهدا بالمدرسة ( يبدو أنه أعاد السنة الدراسية)، عرفتُ فيما بعد أنَّه العريف، وكان يُكثر النظر إلى خارج الصف. وبينما كان الجميع في لغطٍ لاهين، إذا به يقول لهم بصوتٍ خافتٍ خائف: "المعلِّم، المعلِّم"؛ فيسود غرفةَ الصف صمتٌ ثقيل، ويشرئبُّ التلاميذ كمَن يتطلَّع إلى نيزك يهوي من السماء.
ووصل رجلٌ ضخمُ البطن، يمسك بيده اليمنى عصاً غليظةً طويلةً، أَدخل مرآها الرعبَ في نفسي. ووقف عند باب الصف ولم يدخله، عندئذٍ صاح العريف بأعلى صوته بلهجةٍ آمرة: " قيام ! " فوقف الجميع، وأردف العريف مترنِّماً: " صباح الخير، يا سيدي ! " فردَّد التلاميذ تلك العبارة متفنِّنين بترنيمهم.
وكان المعلِّم يقف خارج الصف بطريقة عسكرية وهو يحدّق فينادون أن يحرّك شفتيه بسلامٍ أو كلامٍ، منتظراًاستكمال مراسيم استقباله. وما إنْ صاح العريف: " جلوس ! " حتى دخل المعلِّمُ الصفَّ دافعا بطنه الكبيرة أمامه، رافعاً رأسه إلى أعلى، مادّاً يده اليمنى الممسكة بالعصا بصورة أفقية كبندقية، وكأنه يشنّ هجوما بالسلاح الأبيض على كتيبة كاملة. وفجأة عير بعتبة الباب فسقط بكلِّ ثقله أرضاً، على بطنه، ثمَّ تلقى الأرضَ بيده اليسرى، فاختلّ توازنه، وانقلب على ظهره، وارتفعت ساقاه في الهواء، كما يتهاوى هرمٌ من الأحجار رتّبها الأطفال.
ووجدتني أنفجر ضاحكاً لذلك المنظر البهلواني، غير مقدِّرٍ خطورة عواقب فعلتي، ولكنِّي سرعان ما توقَّفتُ عن الضحك، حينما ألفيتُ جميع التلاميذ صامتين، وقد تملكتهم رهبةٌ لما وقع للمعلِّم العتيد. وأنتَ تعرف أنَّ الروح الجماعية في الضحك هي أساس استمراره ومتعته.
وانتصب المعلِّم واقفاً، وشظايا الغضب تتطاير من عينيه، ثمَّ استدار، والتقط العصا الغليظة، وسأل صائحاً بلهجة الوعيد والتهديد:
ـ مَن ضحك؟
فاستمر التلاميذ في صمتهم، ولم ينبسوا بحرف، مشفقين عليَّ وعلى أنفسهم من عقاب رهيب قد يحلُّ بهم جميعاً.
وتمثّلَ أمامي وجه والدي الصبوح، وأحاديثه الودية معي، وإرشاداته الخيرة لي، ووصيته التي كرَّرها كثيراً:
ـ قل الحقَّ ولو على نفسك !
ولم أكُنْ أدرك لها مدلولا.
ـ يا ولدي ! قُلْ الحقَّ ولا تخَف !
وطافت أمام عيني الفِكَر، ودوت كلمات والدي مرَّةً أُخرى:
ـ الحقُّ هو الحقيقة، والحقيقة هي الصدق.
إذن:
ـ أنا ضحـ...
وارتدّ بصري من المعلِّم لأنظر إلى إصبعي المرفوعة ويدي المرتعشة، ولأتحسَّس جفاف شفتي، ولأستمع إلى صدى صوتي المختنق، وكأنَّه حشرجة جريح، يعقبه دويّ هائل:
ـ تعال هنا ! تعال !
بحثتُ عن ساقيَّ لتنفيذ الأمر، فلم أَجِد لهما ظلاً. إذن، لأندفع بصدري. واندفعت غير مقدامٍ، وتعثَّرتْ قدمي بأطراف ثوبي. وسقطتُ بدوري، ونهضتُ مرتجفاً مواصلاً سيري المتعثِّر نحو البطن الكبيرة المنتصبة بجانب المنضدة. وأَحسستُ بِيديْن كبيرتيْن شديدتيْن ترفعاني بقوّةٍ وعنفٍ إلى أعلى ما يستطيع أن يصل إليه بصري. إنَّه سيضربني بالأرض عقاباً وانتقاماً، كما فعل صاحب المطعم بعامله الصغير، عندما أسقط قطعةَ لحمٍ سهواً في الماء الآسن. وسأتلوّى مثله ألماً على الأرض، دون أن يجرؤ أحدٌ من هؤلاء الصغار على مساعدتي أو رفعي من مكاني. ثمَّ سيطردونني من المدرسة بالتأكيد، وسأُحرَم من مُتَعها التي كنت أحلم بها كلَّ يوم، وستفوتني ألعابها التي كنت أشاهدها من الضفة الأخرى وأنتظرها بشغف، وستبكي أُمِّي من أجلي، وسيعبّر أبي عن خيبة أمله فيَّ.
وبينما كانت الدُّنيا تدور في عيني، شعرتُ بقدَمَيَّ تلامسان سطح المنضدة برفقٍ لأقف عليها. وتناهى إلى سمعي صوتُ المعلِّم الأجش الصارم، وهو يصيح بحماس:
ـ تصفيق... تصفيق مرَّة أُخرى، لأنَّه قال الحقيقة.
ولم أرَ الأيدي التي أطلقت ذلك التصفيق الحاد، فقد اغرورقتْ عيناي بالدموع.
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات