بصمات أمل حياة نافعة

بصمات أمل حياة نافعة


بصمات أمل حياة نافعة

الحسين بوخرطة

استيقظ عمار، ابن البلد الأصيل، فجرا في فصل شتاء جاف أوشك على النهاية. مغتبطا بروح وأجواء وطنه الكفاحية، التي فطنها في الكبر، تمدد على أريكتِه المصنوعة بتصوُّرِ امتصاص الطاقة السلبية. غاص في تفكير عميق في أيام عمره الزاخرة بالأحداث المعلنة والسرية. توالت على مِخْياله الأفكار مُزَمْجِرة ومُجْتَاحة سُوَيْعات الغَلَس بوعي يكاد يتملص مساطيل مَطَبَّات النوم الكاسرة. تعجب لقوة أشعة الشمس الذهبية وشموخها وهي تغالب الغلس مُغْرِقة الكون في نور ساطع.

اشتد حُبُوره الطافِح. استسلم لهذيان حقائق كان يجهل كُنْهَهَا في أيام حياته السابقة، مُردِّدا حكايات تَجَاذُبِ الروح والمادة في وجوده. اختار لها عنوانا دَاهَمَه بإلحَاحٍ: "بصمات أمل حياة نافعة".

عَشِقَت نفسُه الحياة. عاشت السُّبَات العميق المريح. تكدرت كل يوم بأرق أزمات لا قيمة لها. انزلقت مرارا وتكرارا في شِرْكِ تَضْيِيع الوقت الذهبي. ازْدَرَدَت الملذَّات بالشراهة والمتعة النافعتين. تألَّمت بآهات دسائس وضغائن وتفاهات ومتاهات الأقارب.

حملقت بتمعن غائر في مصادر السلط الوطنية والكونية. حزنت لِلَحَظَات التغرير بها بعواطف الجهالة. انفرجت الأجواء حولها كلما تذكرت تشبثها بالكدح وتعبها المتواصل لإثراء عقل الجمجمة الواقية. تحَدَّت منذ الصِّبا الكسل والخمول خِدْمة لعضلات جسد مقاوم للترهل. تَحَمَّلَتْ باستمرار أعباء الدنيا بأبعادها الثلاث: عقل، وجسد، وسلطة.

حملق عمار بتَأَمُّلِ الفلاسفة والعلماء في الوجود والسماء. استرجع البواعث والمحفزات التي جعلته يتعلم ويراكم، ويُقابل النظرية والواقع في القول والفعل. اهْتَدَى أن الحياة حق والسياسةُ فَنٌّ مُمْكن، والثقافة قاطرة تَتَجَدَّد وتُسْتَبْدل كلما عَبَرَت الإنسانية خطوات في غَيابة التطور. تذكر الماضي والحاضر مستشرفا المستقبل في هنيهات معدودة. اِحْمَرَّت وَجْنَتَاه بحماس مباغت وبتوقان لاستدامة بواعث الأمل والتفاؤل. فَكَّر في عالم آخر مُستحضِرا تراكمات كشوفات الكيمياء والميكانيك والإلكترونيات وعلوم الحياة بشقيها الحيواني والنباتي.

أخذ جزء من خبز شعير. أغرقه تارة في صحن عسل حر، وتارة أخرى في صحن زيت زيتون جبلي. غمر كأسا بلوريا شايا أخضرا مستوردا من أرض الصين. توالت الرَّشَفَات المُبَلُّلَة لأقساط خبز الشعير المعسول بطعم اللذة العارمة. نَطَّ ابنه داسا على زر إشعال التلفاز. استدار بأريكته مُرْتَابا من طبيعة برامج وأخبار اللحظة. اِشْرَأَبَّ الفضاء الممكن من نافذة الإغاثة. ضَجَر من سماع أخبار صوت الدبابات والقنابل وأسلحة الدمار الشامل المختبئة. ابتسم عندما التقَطَت أُذُنَاه خبر الكرسي الفارغ في حضرة الكبار بإكراه التخندق في صراع ديناصورات المصالح وعالم التهديدات بالحديد والنار. نادى ابنه بعطف شديد. لَثَم وجنتيه بحنوٍّ لا يُضَاهى. نَاوَلَه قِصصه القصيرة كاملة، وناجاه لقراءتها، مُسِرّاً له أنه ينوى عنونتها "بصمات أمل حياة نافعة".

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...