في كانون الثاني من عام 2010، سافر صالح إلى الخرطوم وفي حقيبته هدايا رمزية، عربونًا لطيبة السودانيين. في أم درمان، استنشق صالح رائحة الضيافة بمصراعيها، أين وجد صديقه منصور بعباءته السودانية الناصعة ينتظره في بهو المطار الدولي. كم هو جميل لقاء الأحبة بعد عام من الفراق.
- أهلا بالصديق الجزائري صالح! النيلان الأزرق والأبيض يرحبان بك.
- السلام عليك يا أخي منصور! اشتقت إليكَ وإلى تربة السودان.
أقلَّتهما سيارة أجرة إلى بيت منصور المتواجد في "شارع الموردة".
أثلجت بسمات أبناء منصور الثلاثة صدر صالح حين دلف منزل المضيف، الذي بدا له بسيطًا، مريحًا وواسعًا. منزل متكون من أربع غرف وقاعة ضيافة ومطبخ كان منصور قد جهَّز حجرة صالح قبيل مجيئه بأسبوع. بقي على موعد الغذاء ساعتان، فاستراح صالح في غرفته، مستلقيًا على فراش ناعم وُضع على الأرض. بدأت روائح الطهي الشهية تَرِدُهُ إلى مبيته، ولكن لا صوت يُسمع لربة البيت! بين الفينة والأخرى، يسمع دعابات أولاد منصور (طفلان وطفلة) القادمة من الفناء...
خرج منصور لشراء أغراض منزلية. عطش صالح ونادى على مضيفه طلبًا للماء. وبعد برهة من الزمن، دخلت إلى غرفته زوجة منصور بكوب من الماء.
- زوجي غائب، تفضل سيدي.
أخذ صالح الكوب فالتقت نظراته مع عينيها عند انحنائها ثم استرق نظرة إلى صدرها المكتنز الذي تدلى كعناقيد العنب من الكرمة!
ارتبك لجمالها، فشكرها على عجل، ثم عادت إلى المطبخ، محرجة إلى أبعد الحدود. أما الأولاد فكانوا يمرحون خارج المنزل مع بقية أطفال الجيران.
بعد أربعين دقيقة، عاد منصور من "سوق الموردة" العتيق مشيًا على الأقدام نظرًا لقربه، متفاديًا امتطاء "الطرماج". وَضَعَ منصور خضروات مزارع "توتى الطازجة في المطبخ ثم أطلّ على ضيفه صالح، حيث وجده شارد الذهن.
- هل ارتحت من سفرك يا الأخ صالح؟ ما بك؟
- لا شيء. تذكرت مبارة كرة القدم العام الماضي بين الجزائر ومصر.
- لقد قمتم بإنزال جوي في أم درمان! حتى أنكم أرعبتم إسرائيل!
-الجزائريون ممتنون لكرم السودانيين.
بَرَقَتْ صورة زوجة منصور في مخيلة صالح لربع ثانية، نادمًا في أعماقه على طلب الماء في أرض الطيب صالح! اعتبر رؤية ثديَي زوجة مضيّفه الطيب خيانة كبيرة، ولو عن غير قصد، فالتفاحة هوت على فمه بسبب قانون جاذبية الأرض لنيوتن!
احتار منصور من سلوك صاحبه الذي بدا غير طبيعي، فلم يتركه هكذا. "هل تضايق من شيء ما؟" تساءل في نفسه. لرفع الحرج عن ضيفه، قال له:
- اليوم ستتذوق المأكولات السودانية: "الضلع" و"عصيدة الدخن" و"شوربة الكوارع".
- هذا خير كثير أخي منصور. وقوفكم إلى جانب الجزائريين شرف لكم.
- أتعرف يا صالح، حمى التوريث "المُبَارَكِي" في أم الدنيا كانت سبب الاعتداء على وفدكم الرياضي الأعزل في القاهرة. أهناك عار أكثر خزيًا من هذا؟
مرة أخرى، راودت فِكر صالح صورة حرم منصور، فأضمر لنفسه عارًا أكبر من كسر زجاج حافلة وقطرات دم! فقميص صالح قُدَّ من قُبل! ولكن ما بوسعه أن يفعل في لحظة غواية مفاجئة. صبّر نفسه أنّه لم يمسسها، أما العين فلم تقاوم ثديين على طبق!
- ما أظن نظام مبارك باق إلى الأبد، قال صالح بعد هبوطه من غيوم التيه المؤقت.
- جليد الطغيان سيذوب يوما ما تحت أشعة الحق. حسنًا، هل تزوجت أم ليس بعد يا صالح؟
ابتسم الشاب الجزائري، مازحا إياه:
- لم أجد بعد المرأة المناسبة في الجزائر. فقلب المرأة يعشق الذهب قبل الحبيب!
- فاتخذها سُودانية، فحبها من ذهب! داعبه منصور.
فكّر صالح مليًا في الأمر، مستذكرًا حسناء البيت. لعله سيظفر بمثيلاتها. ثم أردف:
- وأين سأجدها في السودان؟
- سأعرض على أخت زوجتي حاجتك يا رجل!
انتاب صالح سرور داخلي حتى فاض على وجهه. الزواج نصفه قَدَرٌ ونصفه الأخر عَجَلٌ!
- هذا يشرفني أن أصاهر البلد الطيب السودان. آه، ماذا يفعل الجلد المنفوخ بالأقدار!
ملأ الابتهاج منصور لقبول اقتراحه. نهض وصاح بصوت جهور:
- عجِّلي بالطعام يا امرأة. صهرنا صالح جائع!
تبادل صالح ومنصور القهقهة، ثم دخلا إلى قاعة الضيافة لتناول الغذاء السوداني الشهي رفقة العائلة الصغيرة...
وفي غضون أسبوع التقى صالح بالمرأة التي اختارها له منصور، شقيقة زوجته، اسمها أم كلثوم، وهي في مقتبل العشرينات تدرس الأدب العربي. كانت في غاية الجمال، سمراء البشرة. التهب وجدان صالح حين رآها لأول مرة في بيت منصور.
مكث صالح شهرًا كاملًا في أم درمان، وكأنه لبث فيها يومًا واحدًا لكثرة ملازمته لأم كلثوم. تعرف عليها أكثر، وأطلعته على يوميات السودان العريق وتقاليده. في المطار، ذرف صالح وأم كلثوم الدموع على الفراق، واعدًا إياها بالعودة في شباط لعقد قران الزواج في السودان.
وعند وصوله إلى الجزائر، صُدم عندما علم من أحد أصدقائه أن خطيبته الجزائرية حامل في شهرها الثاني! فأمرت العدالة بالزواج منها لكونه الأب الحقيقي للجنين! كانت الفضيحة في انتظاره في الجزائر. وماذا عن حسناء أم درمان؟ هل من خبر يقين؟
الهدهد دوَّن في تقريره السوداني:" انتحار شابة عزباء وحامل في شارع الموردة بأم درمان مطلع 2011".
بالقاسم مغزوشن كاتب من الجزائر، من مواليد 1979 في عين الحمام، ولاية تيزي وزو. من أعماله الروائية: "المحروسة لا تشبه غرناطة"، و"مؤبن المحروسة يؤذن في فلورنسا". حصل على "جائزة علي معاشي للمبدعين الشباب"، وجائزة الطاهر وطار للرواية"
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات