شِباك العنكبوت
قصة قصيرة
بقلم
قيس لطيف
-1-
كان يرنو اليه من نافذة غرفتهِ المُطلّة على حديقة الدار وبابيها الخارجيين، يتابعه بإشفاق وهو يجولُ كعادته بين الأبواب متفحصاً رُتُجها للتأكد من انها مغلقةٌ كما ينبغي قبل أن يخلد للنوم
- لست متيقناً من انه سينام هانئاً ليلته هذه كما أعتاد طوال عمره، لاسيما بعد ان رتب لي الرحيل مع دليل يقوم بتهريبي عبر الحدود حفاظاً على حياتي..
- لا أظنهُّ سينام... ولا والدتي الطيبة المسكينة.. " وتنهد بحرقة وحرارة"
"وأسترسل في بوح داخلي حزين"
-إنهما لم يتعودا على فراقي وأنا ابنهما البكر الذي سيُبحر صوب المجهول، ليعيش في أحضان غربة ووحدة وعالم مُختلف لا البيت فيه كما بيتي ولا اهله اهلي ولا سماءه وأرضه كما سماء وأرض وطني ولا الأصدقاء فيه بطيبة ورقّة وبراءة أصدقاء طفولتي وشبابي هُنا في المحلّة، لكما الله أيها القلبين الحبيبين اللذين لم افترق عنهما مُذ ولدت.. " تنهدَ ثانية .. تأوه.. طفرت دمعة لتترقرق بين الجفنين.." فكرَ.. دمدم بصوت مرتبك " ليكن الله في عونهما.. وعوني ".
أشعل شمعة صغيرة، أغلق مفتاح نور الغرفة وسار مقترباً من النافذة، متلصصاً من خلف طية للستارة مراقباً أي حركة ونأمة تتحرك هناك في الشارع الرئيسي المحاذي لدارهم بينما قلبه يدق بقوة ونبضه يتسارع وفكره مضطرب يتمازج فيه الحزن مع الخوف والقلق.
شخصَ بنظره إلى شريط أعمدة الإنارة الممتد عبر الأفق، الشارع الأسفلتي الأسود، الأجمَّة المظلمة بأشجارها المتشابكة الأغصان بكثافة.
أرهف السمع، شعر أنَّ حواسه كلها متحفزّة، حادّةً ويقظة بشكل غير طبيعي، تسمر طويلاً عند النافذة: يصغي الى حواسهِ وهولايزال متحيراً أمامها:
- مَّنْ ينبئني بالذي يحدث في اعماق تلك الغابة الكثيفة، ماذا يمكن أن يجري هناك في ظلمتها البوهيمية الحالكة المريبة...؟!
انسحب من النافذة.. ذرع ارض الغرفة جيئةً وذهاباً .. ظله يرتسم على الجدران وارضية الغرفة شاحباً بفعلِ نور الشمعة الرقيق المتأرجح ذات اليمين وذات اليسار.
- من أين يأتيني النوم وقد اجهدني الهّم وأضناني القلق؟!
- وهل من سبيل لرقاد المُفارقِ صوب الغامض الغريب المجهول؟
كم كنت اود لو تعرفت على دليلي الذي سيعبر بي الحدود صوب هذا العالم الغريب الذي سيضحى ملجأي ومقامي؟ على الأقل، قد يخفف التعرف على شخصه من توتري واضطرابي...!!
" فكر مع نفسه بصوت مسموع".
شعر بإرهاق شديد في كامل كيانه، أحس بالخور والإنهاك، كفَّ عن التجوال، دنا من السرير، جلس على حافته، رفع كلتا كفيه واحتضن بهما رأسه آملاً أن يوقف هذا الضجيج المتواصل كمرجل أو محرك قطار يدور ويدور بسرعة صاروخية.
" ابحث عن ضوء في آخر النفق، الطمأنينة المرجوة أو ربما المزعومة بعد هذا القلق والخوف والملاحقة...!
غريق أنا وقشة نجاتي هذا الدليل المجهول، فهل يصدق هذا فيكون لوحاً قوياً آمناً استند عليه لأصل برّ الأمان ...!؟"
لا زال الليل ينساب ببطء سلحفاتي، خليطُ من الأفكار والذكريات والأخيلة تتواتر على شاشة الذهن...!
-2-
" مّنْ ذاك الوغد الذي يتكئ على عمود النور، متظاهراً بإشعال سيجاره؟ اهو آتٍ لمراقبتي؟ وما ادراني ما إذا كان له رفاق في الغابة ينتظرون الإشارة لمداهمة بيتي؟
لا شك أنّه شرطيٌ أو.. لا.. لا.. ربما هو سكير مخمور أو.. ثم أين اختفت الكلاب والقطط التي اعتادت على المواء والنباح طوال الليل.. ماذا حل بها؟ أخائفةٌ هي مثلي من عيون السلطان الجائر.. ثم .. اللعنة.. ما هذا ؟
الشبح ..يتحول ..يستحيلُ في لحظة إلى هيئة أخرى غريبة جبارة مرعبة ، يسقط سيجارته غير المطفأة بعد ، يهبط على اربع أو ربما عشر ، يزحف عابراً الشارع صوب رصيف منزلنا ، يتسلق الجدار من الخارج ، يخترق النافذة ، تبلغني أنفاسه الثقيلة القذرة ،خربشة اظافره وهو يهبط إلى الأرض ، يزحف صوب سريري ، يتسلق بينما أنا أنكمش مرتجفاً ، تطالعني عيونٌ صفراء قميئة تنبعث من فيه رائحة كريهة ويشرع بنسج شبكة ثقيلة الوطأة حول جسدي ، اقاوم بيأس ، أحاول تمزيق الشبكة المضروبة كخيمة حول كياني، ينزف دمي بغزارة والمخالب لما تزل راسخة في صدري ، اوشك أن أصرخ بقوة ، بل ربما صرخت ولم اسمع صوتي."
-3-
في ذات اللحظة تمتدُ له يدٌ يعرفها ، يدركها ويعشقها ...!
يدٍ دافئة نبيلة سلفَ أن طبطبت على كتفيّه وغمرته بحنان شفيف صادق، وكم رفعته من الأرض واحتضنته وشدته بقوة الى الصدر إبان الطفولة البريئة النقية
فتح عينيه.. دهشَ إذ وجد نفسه راقداً على السرير...!
صفعه نور المصباح المتوهج وأبهجه صوت أباه... انهض يا ولدي صاحبنا في الانتظار...!
ودنت منه أمّه الحبيبة وهتفت وهي تعانقه:
-أتمنى لك السلامة يا ولدي الغالي ، تصل بالأمان والسلامة إن شاء الله. لقد اعددت لك فطورك وجهزت حقيبتك ، كُن طيباً مع الرجل الطيب الذي سيرافقك.. مع السلامة يا حبيبي ..سأدعو لك في كل صلاة..!
تمت
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات