مرارة وجود

مرارة وجود


 

عتريس رجل مقدام لم يسمح لنفسه يوما التفريط في مروءته قط. في ليلة حالكة من ليالي الشتاء القاسية، هجر النوم أجفانه، معاكسا حاجة بدنه للراحة. تعب خلال ساعات النهار تعبا شديدا طوق حركاته. وجد نفسه، على الساعة الثامنة ليلا، وهو توقيت دخوله لدارته، الآيلة للسقوط بالمدينة القديمة، مضطرا للهرولة إلى غرفة نومه. تسجى على سريره، نشر الشراشف البيضاء أولا، ثم أغطية تقليدية من صوف الغنم ثانيا. تسلل جسمه بين الشرشفين، باحثا عن الإفلات من شجن اليقظة، والغوص في لحظات دفئ تسافر به عبر رقاد عميق إلى الصباح.

تقلب في فراشه، وكل جوارحه تخاطب أعصاب مخه لتسمح بارتخاء أجفانه، ومن تم الاستسلام لتهجّد غائر. خاب أمله في امتلاك لحظات استكانة لتجديد قوة جسمه وروحه. تسللت الرهبة ودب الرعب على بغتة في عينيه. استحضر أيام عقود عمله المضنية في مملكة عزفائيور.

عزفائيور رجل أسطوري في منطق سلطته الغريب، منطق تقوى وترسخ بفعل تراكمات عناد لحظات الغضب والهيجات المجتمعية. إنه حاكم آدمي من نوع ناذر تاريخيا. حكم بلاده بقبضة من حديد، فسماها "أنا الماء والحياة". ابتدع بدهائه الخارق نظاما جهنميا. حول أبطال أمته إلى شياطين تابعين ومتآمرين. غزى مقت القيم الإنسانية المرجعية نفوسهم، والتهمها كما تلتهب النار الهشيم.

عتريس رجل مواقف ربانية. ترسخت في شخصيته أمانة وصدق وكدح أبيه. تساءل في ساعات ليلته الحالكة عن سبب تقلص عدد أصدقائه الكثر، وابتعادهم عنه، بل أصبحوا يتجنبونه، ويهابون التقرب منه. انقض عليه في اليقظة كابوس فضيع. افتكر كيف شمله نور سماوي عندما اعتقد متوهما أنه محاط بالملائكة في حياته اليومية. قاومت ساعات ليلته الأولى قدر انقضاء أمدها الطبيعي. ساندته العتمة منددة شدة تحكم واستبداد حلكة الليل، مهددة إياها بفضح أسرارها ودهاليزها التاريخية. افتكر كيف انقشع اللبس والغموض المضني، ليجد نفسه مسمرا في فضاء عمل مغمور بالعقارب الضارية. ابتأس بسبب عنف اللحظة، أخرج زفرات حرى، وزمجر في ضيق معاتبا نفسه، وداعيا إياها إلى اليقين بالقدرة الإلهية. أخذ يزدرد في ريقه بسبب شدة القلق، ثم همس لنفسه: لا بأس يا عتريس، عليك أن تؤجل التفكير في القيم الطبيعية للدولة والمجتمع، ولن تسعفك ساعات أرقك إلا في التفكير بعمق لإيجاد سبل النجاة من اللسعات القاتلة.

تذكر ويلات مقاومته لكل فخاخ التكبيل والتطبيل. استحضر الأيام الصعبة الذي مكنته من الحصول على منصب عمومي سامي باستحقاق في زمن كان الشباب لا يجدون عملا في وطن أعطاهم قفاه وتخلى عنهم وانصرف. استرد ذكريات كيف كان يجدد دبيب الشجاعة والحماس في دواخله باستمرار لفرض الذات بأي ثمن. كان يستيقظ فجرا كل يوم بعزم التهام سطور دروسه المتراكمة، ولا يستسلم للنوم إلا في ساعة متأخرة من كل ليلة.

استرجع حفريات بروزه بين رفاقه في مقاومته نقط الضعف الإنسانية في أعوام كهولته، وكيف تدرب على ذلك طوال سنوات شبابه. أقسم بكل شهامة وعزم بعدم تنازله على مقومات سر وجوده ولو كان ثمن الإغراء قناطير من ذهب.

تألم لتقلبات مزاج رجال عزفائيور. آمن لسنوات بأمل تحقيق التغيير. لقد سمح له النظام قبل أيام الضيق بالولوج إلى مؤسسات التنشئة والفقه والتوعية بشروط وخطوط حمراء كان لا يعلم أي شيء عنها مسبقا. راكم مداخيل مادية مشروعة من مؤسسات الدولة، واستفاد الشباب من خبرته وتراكماته المعرفية، إلى درجة اشتهر بين صفوف الطلاب باسم معدن المعارف الثمينة التي لا تنضب. استشاط غيظا عندما علم بأسباب تهميشه المفاجئ. اعتبر ذلك مرتبطا بقوة شخصيته وذكائه ومردودية أدائه ومعقولية مواقفه. فعلا لقد أسر له صديق مقرب منه جدا: "إن الحسم في موقعك يا عتريس جاء نتيجة ضجيج أحدثه قوم الشياطين وقاداتهم الترابيين. لقد عاتبوا القيادة المركزية عن غض الطرف عن تشبثك بالمحافظة على استقلاليتك وكبريائك وعنفوانك ونظافة يدك، مستائين من سخريتك من منافع مواقع التغرير والكسب بدون جهد. لقد اشترطوا استمرار ولائهم ودعمهم لنظام الحاكم بالقضاء على استثنائك، واللجوء إلى الضغط عليك بالشدة المطلوبة حتى تتنازل عن مواقفك وتكون مثلهم. طلبوا منه، لتحقيق مرادهم، اعتماد كل الوسائل الممكنة، بما في ذلك حرمانك حتى من مصالحك المشروعة، وحرمان الوطن وأبنائه من الاستفادة من معارفك وخبرتك. وقد تمتد آليات التضييق عليك لتشمل لا قدر الله حتى فروعك في حالة تعنتك".

والليل يقترب من غلس الفجر، انتاب عتريس غضب شديد عندما استرجع هذه المرة كيف تجرأ رجال الدولة على توحيد كلمتهم مطالبين عزفائيور بالتدخل العاجل للحسم في هذه المفارقة. رفضوا رفضا قاطعا أن يكون بينهم فاعل كعتريس، متميز بنضاله وخصوصيته التي لا يطيقها أي أحد منهم. لقد نبهوا معاليه من خطورة حفاظ عتريس على استقلاليته وحرية دفاعه المستميت على المستضعفين. إن مواقفه اليومية تشكل تهديدا محدقا بمصير الدولة وكيانها. إن ما يقوم به سيحوله، طال الزمن أم قصر، إلى مرجع زعامة شعبية مأمولة، قد يترتب عنها عواقب لا تحمد عقباها. عرف عتريس منه كذلك أن قرارا جائرا قد اتخذ في شأنه، وأن التعليمات لتضييق الخناق عليه قد أعطيت، وعمت كل المؤسسات العمومية والخاصة ومنظمات المجتمع المدني الموالية.

أغفى بعد الفجر لمدة لم تتجاوز الساعتين مسترخيا ومغردا في سماء سهاد عميق.  أصابته صعقة ألم فظيع أنهكت جوارحه وعنفوانه. انقطع بسرعة البرق حبل التذكر في باحة الذاكرة المحملة بالمآسي وحظه العاثر. أيقظته زوجته التي فطنت معاناة كوابيس ليلته. ..... ارتشف بسرعة كوب قهوة سوداء مجرعة. ركب سيارته العتيقة متجها إلى عمله متذمرا ككل يوم. انسرح في متاهات التفكير في مصيره مجددا، ثم تمتم متفوها بعبارات غريبة كفكرة الانتظار في الفكر الشيعي، ومفاهيم الخلاص والشفاعة، وولاية الفقيه، والخلافة التكوينية، والعولمة الاقتصادية، والديمقراطية السياسية..... أخرج نفسه بتعسف من سهاده الجنوني، وتمتم مجددا قائلا: "ألا يمكن أن يكون ما يقوم به عزفائيور ورجاله قيادة تغيير لربح الوقت وإيقاف نزيف هدر الزمن التنموي، وأن ما انتابني وينتابني من ضيق وإحساس بفقدان المعنى يوميا ما هو إلا تعنت مني وعدم انصياعي لتعريف السياسة كفن الممكن. وكيف ما كان الحال، بٙشِعةٌ هي العبودية مهما كانت الاعتبارات بسبب وقع أوزارها المضنية على المستقبل القريب والمتوسط والبعيد. ما المانع في أن أتوق للكمال بطموح إحياء روح عمومية جديدة بنفس السعي، كمالٌ موثوق يعفي الدولة والمجتمع على السواء من أصول المحاكمات في محاكم البشر بادعائها ودفاعها؟ لقد عاش العرب أنوار وشمم مدينة الشريعة العظيمة زمن الأريحيون الذين حولوا القفار إلى جنات. غيروا تمثلات الشعوب للملوك والأسياد، ولم تعد تحتمل مرادفة وجوههم مع الظلم والعدوان والقمع والتسلط. تمتع الأجداد بتجربة محمد علي في مصر، وحصيلة خير الدين التونسي في تونس، وحكمة داود باشا في العراق، وفترات توهج الدولة العلوية بالمغرب... تحرر الناس ولم يعودوا هم الذين يحكمون وثاق العبودية على أعناقهم".

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...