مروءة قبلية

مروءة قبلية


مروءة قبلية

الحسين بوخرطة

قرية "كوجازة" كانت من أبرز القرى تنظيما على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في تاريخ بلد مغاربي. امتدت على جنبات نهر عظيم. منابع مائه الزلال انفجرت من سفوح جبال شاهقة. مستوى تنظيم ساكنتها كان يبهر الدولة ويخيفها في نفس الوقت. الحنان والاحترام اللذان كانا سائدين داخل الأسر حول المودة والحب إلى مقومين وزادين منعشين ومحفزين لحيوية الكبار والأطفال والشباب الدائمة. كل أسرة أنتجت على الأقل متعلما جامعيا. تخرج من مؤسسات الدولة التعليمية والفضاء الثقافي الترابي للقرية عدد كبير من الشباب المختصين في الهندسة بمختلف شعبها، والطب، والفلك، والأركيولوجيا، والأنتربولوجيا، والأدب، والفلسفة، والفنون، وعلمي النفس والاجتماع.

تعودت الأسر على مستويات عليا  مترسخة من التضامن والتعاون في كل أمور الحياة. اعتمدوا على سواعدهم في توفير لقمة العيش الكريمة، وتفوقوا في جلب دعم المنظمات الدولية الرسمية وغير الرسمية المدعمة للمقاربة التشاركية الحقيقية، أي النابعة معرفيا وعمليا من الروح والعقل الجماعيين لأهل القبيلة. زواج شاب أو شابة هو بمثابة طقس ثقافي احتفالي ينظم بمسؤولية جماعية عليا. بنفس المنطق، يتم تشييع وتأبين الموتى، وبناء التجهيزات والبنايات العمومية من طرق ومسالك ومدارس وإعداديات وثانويات ومستوصفات ومختلف مؤسسات التنشئة. يجتمع كبار الجماعة وشبابها في المسجد بعد صلاة المغرب. يحتد النقاش في القضايا المعقدة، ليحسم بتدخل حكيم من أمغار القرية، ويتوج بعناق الأحبة والرفع من معنويات العمل الجماعي التعاوني. يتم توزيع مهام الغد على كل فرد من الجماعة، وتتخذ إجراءات حاسمة لتوزيع الأدوار العادلة وتدبير الأسبقيات في مجالي الحق في مياه السقي المتقاذفة بزخاتها وزبدها من عيون أعلى الجبل، ويتم السهر عن كتب عن توزيع الأدوار لاستغلال آلات طحن الزيتون التقليدية لاستخراج زيتها البلدية ذات الجودة العالية والمنافع الصحية والذوق الرفيع.

أما ما يتعلق بالاستجابة لمتطلبات الدولة في مجال مأسسة الخدمات العصرية، فقد ألفت الأجهزة الرسمية مضطرة قبول المرشح الفريد في الدائرة الانتخابية التي تشمل تراب القبيلة بكامله. جربت الدولة حيلة تقسيم تراب القبيلة إلى دائرتين انتخابيتين لخلق التنافر والصراع بين سكانها، لكنها فوجئت بإشهار سلاح المقاطعة التامة. تم إرجاع الأمور إلى حالها، إلى أن تم التنقيب عن منبع الأنانية في نفوس الشباب المتعلم، بحيث تم انتقاء شاب في مقتبل العمر اسمه عبروق، لم يتجاوز مستواه الدراسي الباكالوريا، ليكون بطل خطة اختراق ومشروع وأد للروح الجماعية. كان شديد الانعزال بسبب شعوره بالدونية. تنفجر بداخله الضغينة والألم ونوع من الشعور بالانتقام كلما نوه كبار قومه بأسماء الشباب الناجح في حياته والداعم لقبيلته بدون قيد أو شرط.

حبكت الخطة من طرف قائد الوحدة الترابية المختصة بتنسيق مع رجال الدولة الكبار. تم احتيار هذه القبيلة المجيدة بتاريخها كفضاء لتجربة نموذجية عسيرة لتيسير الاختراق والتفرقة وسيادة التحكم. تمت دراسة شخصية عبروق ونفسيته لمدة تقارب السنة. رفعت في شأنه التقارير التفصيلية، وأعطيت الانطلاقة لتنفيذ مراحلها بيقظة وحذر شديدين. كان عبروق متعودا الذهاب إلى المدينة عاصمة الإقليم كل سبت للترفيه على نفسه وشراء ما يلزمه ويلزم أفراد أسرته من حاجيات. في زيارته الأخيرة، أنهى أشغاله، وجلس في مقهاه الاعتيادية، معتبرا ارتشافه لكوب قهوة في هدوء سيهون عنه الكثير من التعب والهموم. بعد برهة، جلس على كرسي طاولة بجانبه رجل كهل كالح الوجه، لا هو بالنحيف ولا السمين، متأنق الملبس والأسلوب، وتفوح منه رائحة عطر من النوع الرفيع. أخرج هاتفه النقال آخر موديل، ركب رقما محفوظا في ذاكرته، وارتبط بمخاطب من جهة الاستقبال. سأل عن تقدم عدة مشاريع كلفته الملايير من الدراهم. انتابه غضب شديد، وبدأ يؤنب مخاطبه على ضعف تدبيره وعدم قدرته على قيادة مشاريعه بالدقة والنجاعة المطلوبين. افتعل فقدان أعصابه، فصدرت عنه حركة وكأنها اللاإرادية، فسقط كوب قهوته وتكسر بجانب طاولة عبروق. نهض هذا الأخير من كرسيه، وأخذ يجمع شظايا الكوب، مناديا النادل لتنظيف المكان. لقد اعتبر الحدث فرصة لإنقاذ نفسه من الضياع والدونية التي يعيشها داخل قبيلته.

خاطبه عبروق: أنا اسمي عبروق من قرية "كوجازة". هون عن نفسك سيدي، فصحة الإنسان لا تحتمل الغضب والانفعال والأحزان.

أجابه الرجل: أنا اسمي عصمت، الملياردير المشهور في مجال الاستثمار والأعمال وصاحب المشاريع الصناعية الكبرى في البلاد. لقد تعبت كثيرا، وجاهدت نفسي بلا هوادة، وحملتها ما لا تحتمل من أجل تسريع تراكم ثروتي وخلق مناصب شغل لشباب بلادي. وكما سمعت، مدير أعمالي مسطول لا يعير الاهتمام اللازم لانشغالاتي ومشاريعي التي تعم التراب الوطني. أعطاني الانطباع أنه ملاك مترفع عن الأذى ومقاوما له. مع مرور الأيام افتضح أمره، واكتشفت أنه مارد مشيطن لا يرتاح إلا بعد أن يبلس علاقات العمال الشرفاء، وتحول إلى صانع للإزعاج والسأم داخل الوحدات الإنتاجية لشركاتي.

تدخل عبروق مسهبا في الكلام: سمعت كل شيء سيدي. فعلا جهودكم المضنية، وما ترتب عنها من نجاحات، تتطلب الرعاية والتفاني من طرف فريق متعاونيك. إن أفظع الأمور التي لا تطاق في العلاقات المهنية هو أن يتحول مسؤول إلى جثامة لا يطيقها أحد.

عصمت: قلت لي إنك من قبيلة "كوجازة" المعروفة بمروءة ناسها، وقوة وبسالة مواقفهم.

عبروق: بالتأكيد سيدي. أنا الرجل الثاني في أسرتي، أعين أبي في أنشطته الفلاحية، وأزور المدينة كل يوم سبت لقضاء حاجياتنا الأسبوعية.

عصمت: ما ردك إذا اقترحت عليه وظيفة مراقب لكل مشاريعي الصناعية والمالية. وفي حالة الاستجابة لانتظاراتي بالحزم المطلوب، سأمكنك من أجرة شهرية محترمة وسيارة شخصية من النوع الرفيع. كما يمكن أن أفتح لك المجال لاقتراح شباب من قبيلتك في وظائف مختلفة ومتنوعة.

عبروق: بكل فرح وسرور سيدي. ثم خاطب نفسه "ما هذا الحظ المفاجئ يا عبروق. اغتنم هذه الفرصة وتمسك بها بكل ما لديك من قوة، لترفع من شأنك ومن شأن أسرتك، وترفع رأس أبيك وقيمته بين ناس القبيلة".

رجع عبروق إلى القرية، جمع كل حاجياته في حقيبة راقية الصنع اشتراها له مشغله الجديد. اخرج هاتفه الخاص، واتصل بالسيد عصمت معلنا استعداده للالتحاق بمنصبه. فرح فرحا عارما هو وأبوه وأمه وإخوانه وأخواته وباقي أفراد العائلة من الأصول والفروع. بعد ساعة، وقفت سيارة فارهة براقة اللون أمام المنزل، نزل السائق وحمل الحقيبة، ووضعها في صندوق السيارة، فتح الباب الأيمن، وطلب بلطف وأدب شديدين من عبروق الصعود إلى الأريكة الجلدية الخلفية. تسجى بظهره عليها لتستقبل رأسه وسادة جلدية وثيرة. أحس بالراحة التامة. التفت يسارا ويمينا منبهرا بجمالية السيارة الداخلي، فلمح أمامه هاتفا ثابتا بسماعة تثير العقل والنظر.

السائق: هذه سيارتك، وأنا سائقك الدائم.

عبروق: تشرفت بمعرفتك سيدي، وهل بإمكاني أن أسوقها لوحدي أيام زياراتي لأسرتي بالقبيلة.

السائق: بكل تأكيد. السيارة وأنا تحت تصرفك ورهن إشارتك ليلا ونهارا.

أعطى عصمت الانطلاقة لتنفيذ خطة اختراق أهل القبيلة بالتدريج، هادفا ترسيخ شرعيته ترابيا، ومن تم التحكم في مصير ناسها. مكن عبروق من إمكانية توظيف اثنان في الشهر الأول، ثم ثلاثة في الشهر الثاني. ارتاب أمغار الجماعة من هذا المستجد المفاجئ وغير المفهوم. طلب انعقاد اجتماع مستعجل في المسجد، مبعدا أب وإخوان عبروق مرحليا. تم حبك الخطة المضادة بذكاء شديد. تشكل فريق النبهاء لتدريب المنتقين للالتحاق بوظائف عصمت. تم التواصل بحكمة وبتدرج مع أب عبروق. اندمج الكل في حماية استقرار وكرامة وسعادة وطمأنينة وإيمان ناس القبيلة رجالا ونساء أطفالا وشبابا.

اغتنى عبروق بدون تقصير أو خيانة في عمله، وتحسن المستوى المادي لكل الملتحقين بوظائف عصمت. استنفعوا من خيراته وماله، ونفعوه بجديتهم وأمانتهم، لترتفع نسبة نمو شركاته الاقتصادية. اقترب موعد الانتخابات الجماعية، استقبل هذا الثري من طرف أهل القبيلة استقبال الملوك. رددت النساء الزغاريد، واصطفت الفتيات الجميلات مقدمة إياه التمر والحليب، وارتفعت هتافات الترحيب في صفوف الرجال والشباب. تشجع عصمت مفتخرا بأمجاد هذا الاستقبال. رشح نفسه لعضوية مجلس الجماعة طامعا في السيطرة على رئاسته. ترشح منافس له من القبيلة اسمه عيسى. تظاهر كل الناخبين بعدم اهتمامهم به. أعلنت النتائج، حصل عصمت على صفر صوت، وعيسى على مجموع الأصوات بدون أوراق ملغاة.

اشتد اللوم والعتاب والعقاب صفوف أهل الأمر والعقد الطامعين في تفكيك قيم التضامن القبلي. اعتبروا ما وقع مصيبة مدوية ووصمة عار ألصقت بجبين القيادات المسؤولة. أصيب عصمت بنوبة غضب شديدة. أغمي عليه، وتم نقله إلى مستشفى الأمراض العصبية. استحضر حق القبيلة في الدفاع عن نفسها، وكون الحق يعلو بقدرة الرحمان ولا يعلى عليه. شفي في أجل قياسي. بعد تفكير عميق، وباقتراح منه، أقنع السلطات بمبادرة جديدة. سمح له بإعداد موكب يشرف مقام القبيلة. حل بين ساكنتها ضيفا طالبا المصالحة والصفح والمغفرة. تم الاحتفاء به بمنطق آخر. زغردت النساء، وهتفت حناجير الشباب مرحبة بالصدق وصفاء النية.

انعقد اجتماع في أعلى المستويات. سمح للسيد عصمت للتقرب مجددا من أهل القبيلة. عبر عن صدقه في عدة مبادرات حتى تيقن الجميع من مروءته. اندمج في الحياة الترابية، معبرا عن زهوه بعبر ودروس هذا الامتحان النادر. اشترط عليه أن يكون وسيطا رسميا بين زعيم الجماعة والدولة لا أكثر ولا أقل. وافق الجميع، باتفاق مع كل القبائل، على ترشيحه بدون منافس في الانتخابات البرلمانية. مكنوه من قطعة أرضية شيد عليها منزله. لعب دور الوساطة الانتدابية المؤسساتية بمنطق النماء في احترام تام لسلطة الروح الجماعية. اجتمع أمغار القبيلة مع كبار القوم. شكلوا لجنة لليقظة والمراقبة ومناهضة الاختراق.

عبر السيد عصمت عن افتخاره واعتزازه بما قدمه عبروق وشباب القرية من خدمات جليلة لشركاته. توسع سوق منتوجات معامله وخدماته، وتحول رجال ونساء القبيلة إلى رافعة للتنمية الترابية. تحولت شركات عصمت إلى مجموعة إنتاجية مواطنة ضخمة حصلت على جوائز وشواهد في الجودة وأنماط التدبير التشاركية.

 

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !

التعليقات

إدراج الإقتباسات...