كان المساء يهبط بطيئاً وثقيلاً. كل شيء هادئ حتى العصافير يبدو أنها غادرت المكان. الراديو يبث أخبار الانفصال بين سوريا ومصر. منذ البارحة ووالدي حزين ولا يحدث أحداً. واليوم أخذ المواشي إلى الناحية البعيدة بعد أن جاءت الشرطة العسكرية وطلبت كالعادة إخلاء المكان.
كنا نجلس، أنا وأخواتي الثلاث، على عتبة دارنا في قمة الجبل وننتظر عشاءنا. طنجرة المجدرة تغلي على النار. الوالد الذي ابتعد بالماشية أبقانا مع الوالدة لأن البيت من الحجر الصلب والاسمنت، ويمكنه حمايتنا من الرصاص والقذائف وليس كالخيمة. سكان الخيام نزحوا هم أيضاُ مع من نزح من أصحاب المواشي. الهدوء كان ثقيلا وكل الأشياء تحولت إلى أشباح مخيفة. فالماشية لها دورها في بث الحياة في المكان وجعله مألوفا وغير موحش . مع حلول الظلام بدأ إطلاق قذائف الميدان التي كانت تنفجر في السفح المقابل. التصقنا الواحد بالآخر وواصلنا الجلوس على عتبة بيتنا، بينما الوالدة واصلت تحريك النار تحت الطنجرة .
فجأة دوي قربنا انفجار القذيفة التي سمعناها وهي تقترب مزغردة. واستطاعت الوالدة بسرعة البرق أن تخطفنا من على عتبه الدار وتنطلق بنا في عدو جنوني. كان احدنا على ظهرها وآخر تحت أبطها وفي يدها الأخرى سحبت آخر على الأشواك والحجارة بينما طار آخر أمامها. وبعد ثوان قليله دوى انفجار هائل تلاه انفجار آخر ثم آخر. وصحت بالوالدة: " ناقة عمي!"
كان دخان القذائف يرتفع كتل بحجم الناقة فتسوقها الريح فتبدو كالناقة التي تركض. الركض من القمة إلى الوادي سهل وسريع لكن الظلام جعله خاطفا .
واصلنا الركض، والزحف أحيانا، حتى وصلنا الوادي القريب حيث تجمع الهاربون أمثالنا. لم يحمل احد أي شيء لا ماء ولا طعام ولا فراش ولا غطاء. كل واحد هرب بجلده. ومرت قذيفة من فوقنا لتنفجر في السفح المحاذي. الكثيرون أوقدوا ألنار التي أضاءت سفحي الجبل. كان صراخ الأطفال يرتفع بين الحين والآخر ليسكته دوي الانفجارات. وتقدمت امرأة بثيابها السوداء التقليدية وكانت تسكن وعائلتها ذلك الوادي لتعلن للجميع أنها لم تدع أحداً إلى هذه الزيارة وأنها غير مستعدة لإعطاء الفراش لأحد، فالأطفال سيبولون عليه وهي غير مستعدة لذلك. كانت ثقيلة السمع لذلك قالت ما قالتهُ بصوت مرتفع غير مبالية بردود أفعال النساء اللاتي تكومن بين أشجار السريس كل واحدة مع أطفالها .
الليل جميل بين الأشجار عندما يكلله الخوف من المجهول بالصمت والانتظار. عندما لا تعرف ماذا تنتظر يكون الانتظار مملا، إلا أن الخوف جعله ملح هذا الليل الذي يبدو أنه لن ينتهي . نمنا تلك الليلة مفترشين الأرض وملتحفين السماء لكنها كانت ليله سعيدة وخاصة، لا يمكن أن تنمحي من الذاكرة بسهولة. فهذه فرصة نادرة جمعتنا في مكان واحد نحن المتفرقين في منطقه شاسعة والساكنين قمم الجبال .
في تلك الليلة اختلط البكاء بالضحك والجوع بالعطش والخوف بالفرح .النساء كن يحاولن السيطرة على الأطفال ومنعهم من الحركة بينما كان الرجال يحرسون الماشية ويمنعون فحول الماعز من الاشتباك في معارك طاحنة.
هربت من حضن أمي وانضممت إلى شلة الأطفال. لعبنا الغميضة واختبأنا بين أشجار السريس أو بين الأغنام التي رقدت تجتر ما جمعته في بطونها من أعشاب خلال النهار غير آبهة بدوي الانفجارات. فرحت كثيرا تلك الليلة وخفت كلما عبرت قذيفة من فوقنا أو انفجرت بقربنا. كنت احسد الأطفال الذين يبكون بحرية دون أن ينظر إليهم احد. نمت في الساعات الأخيرة من تلك الليلة وبلل الندى جسدي. رأيت السماء المرصعة بالنجوم. كانت بعيدة جدا وكلما حاول بصري احتواء هذا البعد تجدد ثانية. حاولت وحاولت حتى نمت. قبل طلوع الفجر جاء المراقب واخبرنا أن الجيش قد انسحب من المنطقة فعدنا إلى بيوتنا يغمرنا النعاس والتعب ويمزقنا الجوع والعطش.
القنبلة التي جاءت تزغرد انفجرت بالضبط على عتبة الدار واقتلعت المدخل الرئيسي ملقية به داخل البيت ومحدثة الكثير من الفجوات والحفر في الجدران الداخلية. حفر كتلك الحفر في وجه وجسد ذلك الصبي. المنظر كان رهيباً جداً وشعرت أن القنبلة أصابتنا عندما كنا نجلس على العتبة في مكان انفجارها منتظرين عشاءنا من المجدرة .
لحمنا كان سيلتصق بالجدران الداخلية بالضبط كلحم الأخوين التوأمين، اللذين أصابتهما قذيفة مشابهة على عتبة بيتهما في نفس اليوم. فوالدهما ظن هو الآخر أن البيت سيحميهما. في مثل هذه الحالة لا يسيل الدمع لكي يخفف من جروحنا بل تبقى الدمعة محصورة في القلب لكي تنفجر في أيامنا القادمة عندما يصبح الموت هو الخيار الوحيد المفروض علينا .
بكت الوالدة عندما شاهدت المنظر، مخفية دموعها. عندما التفتنا إليها كانت تشكر الله أنها استطاعت أن تخطفنا من المكان في الوقت المناسب، وبعد أن أطلقت سبيل الحمارين المربوطين أمام الدار بعد أن إصابتهما شظايا القنبلة الأولى التي انفجرت في حفرة المحجر أمام البيت وبذلك نجونا من موت مؤكد واستطعنا الإفلات من القذيفة الثانية.
الوالدة لم تبك كثيرا وبدأت بتنظيف المسطبة وجمع كتل الاسمنت التي سقطت من الجدران الداخلية. كانت تدندن بصوت خفيض. ربما أرادت أن تبكي أكثر ولم نعطها الفرصة. ذهبنا نتفقد بقايا الدم الذي نزف من الحمارين اللذين أصيبا بجراح طفيفة في تلك الليلة.
لعبة النزوح هذه وقصفنا بالمدافع تكررت كثيرا وفي كل مرة كنا نعود لنمارس الحياة والنجاة من الموت من جديد.
عشت الغربة في الوادي خلف الجبل وعشتها في البيت في قمة الجبل. في بطن أمي كنت أبحث عن فسحة من أمل، عن مهرب. عرفت أن الحياة ستكون غير ما أريد . وأحسست بالغريزة أن لا مكان لي في هذا الكون الضيق. لأن التاريخ يكتبه الأقوياء والجغرافيا يفرضها من يملك الوسائل. وأنا لا أملك الوسائل ولا املك القوة ما دمت ابنا للعشيرة ووحيد أهلي. قوانين القبيلة لا ترحم. وأفرادها يمارسون الموت البطيء مخفين أوجاعهم الواحد عن الآخر. مثل كل الشرقيين يظل الواحد منهم قاعدا متربعا على الخازوق لا يئن ولا يعبر عن وجعه خوفا من الآخر الذي يجلس على نفس الخازوق. لو كان لي أخوة لغادرت المكان بحثا عما أريد. هذا المكان الذي يجرحني حتى العظم ولا يعطيني فرصة للبكاء. لكنني أحبه بكل جوارحي ولا أدري لماذا .
نجونا أنا، أمي، أخواتي والحمارين بفضل الله وبفضل إصرار الوالدة وحرصها. فقد أطلقت سبيل الحمارين في الوقت المناسب، وبعد انفجار أول قذيفة وسحبتنا من مدخل البيت قبل فوات الأوان وسقوط القذيفة الثانية. لولاها لمتنا كما مات التوأمان في الجهة الشرقية من المنطقة وفي نفس الليلة حيث أصابتهما القذيفة وهما يلعبان أمام البيت. التصق لحمهما بالجدران. كانا متعانقين كما يبدو فطارا معا. أو ربما تعانقا هروبا من صفير القذيفة القادم، فالقذائف تأتي مزغردة. واصلا عناقهما بدون صراخ أو ألم. إلا أن والدتهما لم تتحمل المشهد. فقدت الوعي أياما عديدة. كانت تهذي بكلمات غامضة وغير مفهومة وتلطم على رأسها بشكل عنيف. ربما لأنها لم تخطفهما كوالدتي في الوقت المناب وتهرب بعيداً. أشاعوا في العشيرة أنها أصيبت بالجنون لأنها شذت عن تقليد الصمت على الخازوق. تفرجتُ عليها مع بقية الأطفال. من المؤكد أنهم لم يعطوها فرصة لتكون وحدها وتبكي كيفما تشاء. لا شك أن الشيوخ منعوها من اللحاق بولديها إلى المقبرة. لو تركوها تعيش حزنها كما يليق به. تباً لهم! . حتى الحزن عليه قيود؟
أردت أن ألطم رأسي مثلها لكنني لم افعل. من يومها صار البكاء بالنسبة لي شيئا لا يمكن قبوله أو اللجوء إليه فهو يزعج القبيلة. صار البكاء من الأشياء التي يجب ألا تحدث مهما حصل .
من غيرنا يموت ويتهم بأنه يشوه صورة العالم؟ من غيرنا يهدمون بيته ويتهمونه بأنه يزعج قططهم النائمة فيصبح هو الملعون والمطارد والمطالَب بإثبات براءته؟ وعندما نموت لا يسيل الدم بل يمتزج بالدخان ويختلط بالرمل والحجارة.
حتى عندما رمتني فرس أبي على الأرض لم أبك. لأنهم قالوا لي أنني رجل. كان عمري ثماني سنوات وكنت في طريقي إلى النبع لسقيها. في الطريق كنت أضربها لتركض ولكنها ترفض وكأنها تعرف أن خيّالها صبي. أحياناً كانت تأخذني على قد عقلي وتركض قليلا ولكن ببطء شديد. هذه المرة يبدو أنني آلمتها بالضرب فانطلقت بسرعة فرمتني على الأرض. تألمت كثيرا وشعرت وكأن يدي قد كسرت. الفرس توقفت وانتظرتني لأنهض. مسحت الدم الذي سال بطرف كمي وعدت إلى البيت. لم أخبر أحداً بما حصل لي. أخفيت وجعي لألا يقولوا أنني لست رجلاً.
***
حسين فاعور الساعدي
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
لا يوجد تعليقات بعد ! كن أول المعلقين !
لا يوجد اقتباسات