العرّافة

العرّافة


نظرت إلي مليا قبل أن تضيف إلى المبخرة نوعا آخر من أنواع البخور بعد أن استمعت إلى كلماتي المرتبكة: )انظري إليّ جيّدا. أنا امرأة بدون ساقين. لا أعرف كيف أحطّ على الأرض. عيناي نابتتان في الشّق الأعلى برأسي . نظرتي متعالية . الأسفل يغرقني في السطحية  . تجدّف بي الرؤيا  بعيدا . لكني كثيرا ما أنزلق و أهوي . انظري إلى تكسراتي وانكساراتي (.

 سألتني  وهي تتأملني بعينين ملؤهما الحيرة . بدت كما لو أنها لم تبد اهتماما كبيرا لكلماتي  العجيبة :

أنت تتقيئين في صباحات كثيرة ؟

تذكرت أنني منذ مدة أصحو من النوم بمعدة دوارة تريد أن تلقي كل ما فيها خارج إطارها الضيق . فأسرع إلى بيت الحمام وأفرغ ما في باطني كمن يتخلص من عبء ثقيل ، مؤذ. غالبا ما يكون سائلا بلون مصفرّ و لزج . أشعر بعدها بزوال الدّوران من رأسي لكنّ الألم يظلّ مستوطنا بمعدتي الخاوية .

أجبتها بإيماءة خفيفة و بصوت خفيض كما لو أنّي أهمس لها  : 

 - يحدث هذا أيضا  ..

لو تسألينني متى وكيف ؟سأحدد لك ذلك أيضا ..

كلّما عشّشت أفكار غريبة داخل رأسي و تسلّلت من بين تجاويف مخيّلتي  أسئلة عقيمة تستعدّ  لربط حبال مشانقها حولي ،  أجدني ضالّة بين مقاسات اللغة ، تائهة بين متاهات الكلام فأصمت كثيرا . 

هل تريدين أيضا معرفة مقدار صمتي ؟ 

كلّما تكلّمت و هوجمت باللاّ مبالاة لذت بصمتي . كلّما تناسلت  من بين شفتيّ حروف تدلّ عليّ أكثر ، ترتدّ بداخلي مصابة بالخجل  والرّيبة والخوف . كلّما كبر الخوف ، تفاقم  صمتي . كلّما اشتدّ  الصّمت ، ازداد شعوري بالدّوار.

-  اقتربي  وضعي رأسك على ركبتيّ . قالت ذلك دون مراعاة وقع لا مبالاتها على رأسي الموعودة بالدّوار . 

اقتربت مسلّمة لها أمري ورأسي المثقل بخيباته فأحنيته على ركبتيها . راحت تتمتم بكلمات غامضة  فهمت بعضها وغاب عنّي فهم بعضها الآخر . هي أيضا  لها لغتها الخاصّة بها  . لذلك تخرج كلماتها مخنوقة المعنى.  انتظرت بكلّ شماتة أن أراها تتقيأ مثلي وتلفظ حروفها المدانة غير أنها اكتفت بين حين وآخر برفع يدها إلى فمها حيث تتثاءب مرّات عدّة متتالية  . 

 راحت   تتفل على كفّها و تمسّد بيدها على جبيني المتعب قبل أن تدعوني للقيام .  

خرجت من عند العرّافة متخفّفة من حملي كما قالت لي أو هكذا أوهمني سحر اللّحظة و حاملة أنواعا من البخور والتّمائم ووصاياها الكثيرة لتوخّي الحذر الشّديد في استعمالها . 

لم تكن تلك المرّة الأخيرة التي أزور فيها العرّافة . تعدّدت الزّيارات و كثرت الطّلبات و ثقل الحمل على بقايا راتبي المبتور فبعت خاتمي الذّهبي الذي ورثته عن أمّي و تداينت من جارنا عطّار الحيّ حتّى ضاق ذرعا منّي   و تخلّصت من هاتفي الجوّال عالي الجودة لأستبدله بآخر يكفي  فقط لتقبّل المكالمات والرّد عنها . 

كلّ ذلك لأرضي عرّافة السّوء التي كثرت مطالبها دون أن تجدي  معي نفعا  . 

في آخر لقاء لي بها بدت هي أيضا متذمّرة من وجودي ومشكلتي العويصة قالت وهي لا تكاد تنظر إليّ :

 " أتعبتني بشكواك و تبرّمك من كلّ ما حولك . لماذا لا تقتنعي بأن حظّك  من الدنيا سيّء جدّا  وتصرفي نظرك تماما على أن يكون قادم الأيام مواتيا لامزجتك الغريبة ؟ انسي أنك امرأة خلقت لغير البؤس و تخفّفي من آفاقك الواهية . الحياة زئبقية فناوريها ."

حدجتني بنظرة فاحصة و كأنها تتأمّلني لأوّل مرّة لتواصل كلامها بنفس أكثر وقعا على روحي الجامحة وبرغبة منها في أن تكون وصاياها أكثر إقناعا:   "أنصتي لي جيدا.  لا تحاولي أن تغيّري العالم من حولك  كي لا تكون كلّ حروبك خاسرة. كوني أنت العالم بأسره. جيد أن تكون لنا مع الحياة اختبارات مفاجئة ، شاذة وغريبة. اقتنصي من بؤس اللحظة عمقها . كوني مستعدة دوما لخوض معاركك الآتية. السعادة لحظة فالتة من ركام الأحزان الثقيلة. ابتسمي وأنت تصارعين الزمن العاقر بشقاوة روحك التواقة للمغامرة

 وأنا في غمرة عجبي  وتعجبي ، لم أتمالك نفسي عن الضّحك أمامها  أنا الّتي لم أضحك أبدا  منذ أحقاب طويلة .  ضحكت حتّى تناثرت الدّموع من عينيّ المتعاليتين  . 

 كانت ضحكتي مجلجلة وعالية أفزعت العرافة فأضافت بخورا إلى مبخرتها. انقشعت علامة الاستنكار على  ملامحها..  بدت  مستبشرة بضحكتي الصّاخبة وراحت تردّد بصوت جهوريّ ليصل صداه  إلى مسمعي وأنا مستغرقة في ضحكتي الهستيريّة  : 

مع كلّ ضحكة  انقري على الخشب .

لاتخبري أحدا أنّك سعيدة 

حدثيهم عن كل شيء ..   عن الألم و الحزن والقلق والأماكن المغلقة . لا تحدّثيهم عن أحلامك المحلًّقة ..  عن لحظات بهجتك المباغتة .كوني كتومة بما يكفي حتى لا تسرق العيون أسرارك الصغيرة وتتناولها الأفواه بالمضغ واللوك فتفسد عليك طعم الأحلام المنفلتة . هل فهمت الآن ؟

 لا شيء يقتل الأحلام  إلا إفشاؤها . 

اضحكي لكن إياك أن تخبري أحدا عن سرّ ضحكتك الصّاخبة . هل أدركت الآن سبب تعاستك ؟ )الصمت سلاحك حين تنطلق جوقة الآخرين .. اصمتي كثيرا وتدربي على الإنصات إلى الصوت الصادر من أعماقك؛  رهانك الأكبر للتجلي " 

 انسحبت خارج المكان دون أن أولي كلامها الأخير اهتماما كبيرا .  خرجت  ساحبة ضحكتي معي ، دلفت بها إلى الشارع القريب . كنت كلما لمحت ملامح المارة المستغربين المتسائلين في عجب من أمري ، تعلو الضحكة عاليا و كلمات العرّافة تقرع أذني " لا تحاولي أن تغيري العالم من حولك  كي لا تكون كل حروبك خاسرة. كوني أنت العالم بأسره (. 

مرّرت نظرة متشفّية في العيون المترصّدة بضحكتي المجلجلة 

تهيّأ لي و لأوّل مرّة أنني كسبت الحرب التي خضتها منذ حلّ علي البؤس من  سنين طويلة .

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

جمعة عبدالله

09-12-2021 12:09

الاديبة القديرة زهرة الظاهر

هذا الاتجاه الواقعي الذي يتناول قضايا الناس الحساسة  ومنها مشاكل المرأة , ويغور في عمقها وخلفيتها في الحدث السردي المرهف , يتناول احدى قضايا المرأة , حين تشعر بالاختناق والحاصرة , حي تلفها دوامة الحيرة والقلق والحزن  , حين تجد نفسها محاصرة بالالم والحزن والتأزم النفسي المرهق , ينتابها الغثيان , بالافكار الغريبة التي تداهمها , وتقلق راحتها وتشعر بالغثيان  , لم يكن لها مناض سوى مشورة العرافة , لكي تتنفس الصعداء لو موقتاً من الشكوى والعتاب من حظها السيء , الذي يجلب البؤس والقلق والحزن , هذه المشورة  من العرافة  , هي تسكين موقت من الاحباط والخيبة , هذه رحلة سنوات العذاب للمرأة , وحتى هذا التسكين الموقت تشعر بالانفراج في اساريرها كأنها كسبت الحرب , حقاً الغريق يتشبث حتى لو بقشة من غرق الاحزان .

براعة في الغوص في عمق المشكلة أو الازمة , بهذا الحدث السردي المرهف الذي يشد القارئ اليه , وهو جزء من مشاكل المرأة .

تحياتي أختي العزيزة بالخير والصحة

 

 

التعليقات

إدراج الإقتباسات...