في العام الدراسي 1966ــــ1967، كنتُ مدرِّساً بمعهد السكرتارية في جامعة بغداد. وكانت ابنة عم زوجتي، الدكتورة سعاد خليل إسماعيل (البستاني) (1928 ـ 1995)، مديرةً لمركز البحوث التربوية والنفسية في جامعة بغداد. وكانت قبل ذلك عميدة كلِّية البنات في جامعة بغداد (كلّية الملكة عالية سابقاً)، وأصبحتْ بعد ذلك التاريخ ببضع سنوات أولَ وزيرةٍ للتعليم العالي والبحث العلمي في العراق (1972 ـ1974)، وكان أبوها وزيراً للمالية العراقية في أواخر الأربعينيات. وكنتُ أزورها في مركز البحوث التربوية بانتظام لأتعلَّم منها.
وذات يوم أخبرتني الدكتورة سعاد أنها وجَّهت دعوةً إلى الدكتور عبد العزيز القوصي (1906 ـ 1992) لزيارة بغداد للاستفادة من خبرته في تطوير مركز البحوث التربوية والنفسية الذي كان حديث النشأة. وكان الدكتور القوصي أشهر علماء النفس العرب، فقد حصل على الدكتوراه في علم النفس من جامعة لندن، وهو صاحب نظرية بناء القُدرات العقلية، وواضع عامِل إدراك المكان الذي يُرمَز إليه بالحرف K الذي يشير إلى اسمه، ويشكِّل أساساً في اختبارات الذكاء، وصاحب كتاب " أُسس الصحة النفسية" الذي تُرجِم إلى العديد من اللغات.
وذكرتْ لي الدكتورة سعاد موعد وصوله مع زوجته في مطار بغداد، وسألتني ما إذا كنتُ أودّ أن أذهب إلى المطار لاستقباله حيث ستكون هي وعددٌ من أساتذة المركز مثل الدكتور مسارع الراوي (1927 ـ ) الذي كان قد عُيِّن وزيراً للثقافة بعد الإنقلاب العسكري عام 1963، والذي أصبح فيما بعد المدير العام للمنظَّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس في أواسط الثمانينيّات.
كان الدكتور القوصي آنذاك خبيراً في مكتب اليونسكو للبلاد العربية في بيروت. وقبل ذلك كان وكيل وزارة التربية والتعليم المصرية في أوائل الخمسينيات إبان ثورة يوليوز 1952. وهو الذي ألغى تعليم اللغة الإنجليزية من المدارس الابتدائية المصرية وجعلها تُدرَّس ابتداءً من السنة الأولى الثانوية، لأن دراساته النفسية، وهو المتخصِّص في علم النفس، أقنعته أنَّ من الأفضل تخصيص السنوات الأولى من التعليم للغة الأمِّ خشية التداخل اللغوي السلبي. وعندما كنتُ أدرس في الجامعة الأمريكية في بيروت، دعاه أستاذنا في علم النفس لإلقاء بعض المحاضرات علينا.
لكلِّ ذلك ودعماً للدكتورة سعاد، قبلتُ المشاركة في استقبال القوصي في مطار بغداد. وفي الموعد المحدَّد، اصطحبت زوجتي بتول عبد المجيد إسماعيل البستاني بسيّارتنا إلى مطار بغداد، وهناك توجهنا إلى صالة كبار الزوار، وعرّفتهم بنفسي والغاية من وجودي فرحَّبوا بنا. وانتظرنا في الصالة وصول الدكتورة سعاد ومرافقيها ووصول طائرة الدكتور القوصي. ولكن الطائرة وصلتْ ولم تصِل الدكتورة سعاد ولم يصل مرافقوها.
جاءنا المسؤول عن صالة كبار الزوار وأخبرنا بأن الطائرة وصلت وفي وسعنا مرافقته في سيّارة المطار إلى الطائرة للترحيب بالدكتور القوصي وزوجته حال نزولهما من الطائرة، ففعلنا ذلك. ورحَّبنا بالضيفيْن، ورافقناهما إلى صالة كبار الزوار، وهناك قدّم الموظَّف المسؤول القهوة لنا جميعاً، وأخذ جوازَي سفر الضيفيْن وتذكرتيْهما لإنهاء إجراءات الدخول وجلب حقائبهما. وتمَّ كلُّ شيءٍ على ما يرام، بيدَ أن الدكتورة سعاد ومرافقيها لم يصلوا. وقد تساءل الدكتور القوصي أولاً عن صحَّة الدكتورة سعاد، فأجبته أنها بخير والحمد لله، ثم تساءل بنوع من الخجل قائلاً كان يظن أنَّها ستتكرَّم باستقباله، فأجبتُ هذا ما أخبرتني به ولكن لم أرَها، عسى أن يكون المانع خيراً.
وبعد أن تمّت جميع الإجراءات رجوتُ الدكتور القوصي وزوجته مرافقتنا إلى سيّارتي في موقف السيّارات في المطار لأصطحبهما إلى فندقهما. وعندما خرجنا من الباب الرئيس للمطار، وجدنا حشداً كبيراً من الناس وأصحاب سيّارات الأجرة والحمالين. وهناك لمحت الدكتورة سعاد والدكتور مسارع الراوي واثنين آخريْن لا أذكرهما، يشرئبون بأعناقهم في انتظار خروج الدكتور القوصي من المطار. وكانت مفاجأة سارَّة للدكتور القوصي ولكنها محرجة لتلك الشخصيات الكبيرة.
وبقيتُ في حيرة من أمرهم، أتساءل في نفسي: كيف لا يعرف هؤلاء الوزراء شيئاً اسمه صالة كبار الزوار في المطار؟!
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
14-11-2021 11:08
15-11-2021 11:05
15-11-2021 11:05
لا يوجد اقتباسات