مَمَدْ اسطورة القبور

مَمَدْ اسطورة القبور


في ضواحي المدينة تقع مقبرة بلا اسم. كان هناك رجلا اسمه مَمَدْ، ينام وسط القبور، في خلاء مكتظ بالنيام. فهو غريب الأطوار، نحيل الجسم، جبهته عريضة، له حاجبان عريضان، منفوشان، يتدلى على العينين. يظهر في وقت العصر في أرجاء المحيطة بالمركز، ويمر أمام السينما، يمشي حافي القدمين في أسمال ممزقة. وعلى رأسه طاقية ملفوف عليها رباط اخضر، ويشد على بطنه حزام عتيق من الجلد. يرتدي دشداشة طويلة وسترة شتوية. وجهه شاحب، وكأنه يعاني من فقر الدم، عظامه بارزة، تتلمسه من صدغيه وحنجرته. فقدت سترته، الداكنة من تراكمات الأوساخ، لونها الحقيقي وبدت أكبر حجما.، لم اره ابدا بدونها، حتى في أعلى درجات الحرارة. كنت في دهشة من امري كيف لا يفقع هذا الرجل. وانا انظر الى مقلتيه، ظلت عيناه محدقتين، وهو ينظر إلى الأمام، دون ان يحرك رموشهما. كأنما اصابه صدمة قوية ولم يفق منها بعد، كنت طفلا في حينها ارتعد من حضوره. 

    كان يمشي منحني الظهر، يحرك فقط يده اليمنى، بقوة الى الأمام والخلف،  بينما يده اليسرى ثابتة ملاصقة بجسده. عندما يقترب المرء منه، يشعر بثقل الهواء، حيث تفوح منه رائحة نتنة، بسبب الجيفة في جسده. ما ان يجلس للراحة قليلا، سرعان ما يتجمع الذباب حوله بحثا عن الطعام، وكأن صندوق القمامة انفتح غطاءه. انتفضت رائحة كريهة لتصل إلى الذباب. وفجأة بعد برهة من حضوره يختفي عن الأنظار.

     ظلت كلمات ملا سعيد ترن في ذاكرتي: القدر كتب له ان يقضي حياة البؤس وان يطفو على شفا هاوية سحيقة دون ان ينزلق الى العمق ويبقى معلقا في الهواء. فحياته بلا امل، تستطيع القول انه العدم.    

    المرء يرى في حملقته تمرد واضح على بؤس الزمان، انتفاضة ضد اللاعدالة، ومع ذلك كان يعيش في عالم وهمي يصنعه لنفسه، عالم الصمت، عالم مجرد من الاحاسيس والمشاعر. عالم الخلوة والانزواء. وجوده بين الأموات، يمنحه الشعور بالحرية، والسعادة . لا صوت يعلو على صوته. 

    سمعت من أخي الكبير بأن مَمَدْ يعتقد ان الذين يسكنون في القبور ويقصد بالساكنين، الأموات، يدخلون في سكون مطبق، ما ان يصل الى موطنه. واحيانا عندما ينام يرتفع في الظلام انينا عميقا يزعجه أثناء النوم. عند سماعي لهذه القصة، ارتعدت أكثر من ذي قبل. 

    كنت أتصور بأن الحياة بدت له شريرة وظالمة حد اللعنة، وكل شيء مناط الى الصدفة. كنت اتساءل كيف لرجل مثل مَمَدْ ان يموت بسهولة. فمثله عاش وسط القمامة كيف للموت جرأة أن يقترب منه او حتى يداهمه ببساطة. في كثير من الأحيان، إذا لم يجد من يقدم له قطعة خبز أو حساء من فضلات الطعام المتبقي في الصحون البلاستيكية، تجده، يغمس رأسه في كانتينات الخاصة بالقمامة ويبحث عن الطعام.

     هبط الليل على القبور، بعد يوم مثقل ومملوء. رقد مَمَدْ في حفرته وسط القبور، مستشعرا الم الحياة تحت ترابه الساخن في تلك الحفرة بحجم جثته. كما يسميها هو موطنه. أسدل أجفانه، أغمض عينيه المثقلتين، ليدخل إلى عالم الأحلام، عالم يجد فيه ضالته، ويعيد قواه قبل ان تشرق شمس الصباح وتحرمه من أحلامه. وتحت جفنيه المغمضتين، ربما مرت بحور من الالام منذ ولادته، وربما شعر انه يسبح في الفضاء عاريا، حرا، في عالم يختلف عن عالمه، الذي فقد فيه ساعاته، وأيامه. لم يعد يسمع ذلك الأنين بعد الآن. سكن قلبه وبقي جاثما في حفرته إلى الأبد. كنت اراه دائما في محيط السينما، لم يعد لمَمَدْ أي حضور يذكر. عندما مررت هناك تذكرت، ان المكان ينقصه انسان مجهول.

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

جمعة عبدالله

02-03-2022 03:05

القاص القدير الاستاذ كفاح الزهاوي ..........

حبكة سردية مرهفة بالتشوق. وتملك خلفية عميقة في الايحاء والمعنى . حدث سردي من المشاهد اليومية والواقعية بالفعل في الحياة اليومية , وهي تحمل صور صارخة في ادانة الانسان المسؤول عن رعيته . انها صور صارخة من اللاعدالة للارض والسماء , لهذه الفئات الفقيرة والبائسة , التي ينهشها الظلم والحرمان . ان تعيش بين نفايات القمامة والقبور . ولكن بعض معالم من هذه الفئة الانسانية المحطمة تملك حضور بين الناس , رغم حالتها الرثة والبائسة بالعفونة . وغيابها يثير التساؤلات الجمة . بالحزن والاسى , ولكن لابد من طرح السؤال الوجيه حول هذه الشريحة الانسانية المظلومة من الله والانسان , ان تعاني الحرمان الحياتي الكلي . بدلاً من ان تأخذ حقها المشروع في العيش والحياة . بدلاً ان تكون حياتها كحياة الجرذان العفنة . بطرح السؤال : لماذا خلقها الله بهذا الشكل البائس جداً ؟ . لماذا الله اهملها بالحرمان والبؤس والظلم ؟ . اذا لفت اتباهك هذا البائس الفقير الذي يعيش حياة القبور , فاليوم في ظل الحكم الاحزاب الاسلامية  كما تدعي احزابه . بأنها مؤمنة بالدين والتقوى والعدل والانصاف . بينما نجد عشرات الالاف أو الجيوش في الحشود  الضخمة , تعيش بين نفايات القمامة والبيوت العشوائية كالقبور . وهم يكنزون اطناناً من الذهب والدولار . تعيش هذه الفئات الفقيرة والبائسة تصل نسبتها تحت خط الفقر الى 40% من السكان ,  في بلد اغنى بلدان العالم . فأين الله والدين من هذه النخبة الحاكمة , التي تدفع شعبها الى الفقر والظلم والحرمان . هل هذا اسلام الله أم اسلام الشيطان؟ ؟  , ولكن يظلون يلعبون على عقول الجهلة والاغبياء في المواكب الدين , في استغلال الرموز الدينية الطاهرة التي تمثل العدالة والاسلام الحقيقي وعاشت النزاهة والصدق والزهد وادت دورها التاريخي المرموق , واصبحت شعلة الاسلام والعدل والتقوى والانصاف , تأتي هذه الفئة الباغية والنكرة لتضحك على عقول الناس في جبة الدين والمذهب ........  , متى يفيق عقل الناس بأن هؤلاء النخبة الحاكمة واحزابها هي اتعس من ابليس والشيطان , اتعس مخلوقات الله في النفاق والدجل والضحك على الذقون  وهم بعيدين جداً عن اخلاق الدين والضمير الحي . متى يقلبون الطاولة على رؤوسهم بدلاً من السجود لهم بالقدسية والتعظيم , اي نفاق هذا بين الناس  , بدلاً من ان يصرخوا في وجوههم : اين حقي ؟؟؟

تحياتي صديقي العزيز

كفاح الزهاوي

03-03-2022 03:11

كفاح الزهاوي

03-03-2022 03:12

تحية الناقد والكاتب القدير الاستاذ جمعة عبدالله.
اسعدتني جدا مداخلتك القيمة التي اغنت النص بفيض من الافكار. امثال ممد يتم النظر اليهم كالحشرات الضارة، يتركونهم لقدرهم ان يعانوا من اشد الامراض فتكاً ومن ثم ينعتونهم بابشع الكلمات. شكرا لك مرة مع فائق احترامي صديقي الاعز

التعليقات

إدراج الإقتباسات...