بات مُتعِباً قلقه، إذ أصبح يفوق حده في بعض الأحيان لا سيّما في ذلك اليوم الشتائي، حيث كانت السماء تنفث رذاذاً يحجب الرؤية. لذا كنت مصرة على الذهاب من دون مرافقته لي إلى المستشفى، مؤكدة له بأن وسائل النقل العامة هي الحل الأفضل.
انهالت عليَّ نصائحه وإرشاداته: معطف سميك، حذاء دافىء والحذر من سلالم المستشفى القابعة في الجبل.
كانت بودابست غارقة في السديم حتى لا يكاد رؤية رقم الحافلة المتجهة نحو الطريق الذي طالما ألفته لسنوات عديدة. كنا نصغي إلى صوت المرأة الجميل عبر المسجل وهي تذكر اسم المنطقة القادمة وكانت المستشفى. نزلت وإذا بشعاع شمس حاد يشرق فوق الجبل والمستشفى. كيف يمكن ذلك؟ تساءلت.
شعرت بدفء يغمرني. ارتقيت السلالم بحزم، لا أثر للثلج عليها حتى وصلت القسم. كانت جميع أبواب الممر الطويل مفتوحة، فرُحت أتطلع في ردهات المرضى وكانت النساء قد رمت عن سيقانها الأغطية والملابس كي تداعب الشمس بشرتهن الباهتة. أما الرجال ففتحوا أزرار البيجاما الفوقانية لتلامس الشمس صدورهم المتعبة من السعال.
استلمت أوراقي وأسرعت، علي تقديمها إلى الجهة المختصة للحصول على موافقة لاستلام وجبة جديدة من (إكسير الحياة)، فأعياد الميلاد على الأبواب.
ركبت الحافلة شاعرة ببهجة أجهل مصدرها، أهي الشمس؟ ويا للغرابة! انطلقت الحافلة وإذا بنا ندخل مجدداً في الضباب، استدرت والشعاع مازال يحلق فوق المستشفى فقط. أهو هدية أعياد الميلاد لأولئك المساكين الذين سيحرمون من دفء العائلة وشجرة الميلاد (التي ابتدعها الألمان)؟
ذلك الشعاع أنار ذاكرتي لأني أعرف الطريق والأماكن مغمضة العينين. في هذا الطريق الجبلي أمضيت أربع سنوات في مشاهدة الأفلام المجرية والكتابة عنها في متحف الأفلام Filmúzeom. تسير الحافلة فتمر ببناية صناعة أفلام الكارتون والدبلجة Pannónia Filmstudió حيث عمل بسام فرج تمضي الحافلة جنب بيت السيدة التي عاد زوجها إلى العراق ليتركها مع طفلها الوحيد في عامه الأول، بقيتْ تنتظره حتى عرفت أنه قُتلَ في العراق مع رفاقه.
ترتسم الابتسامة على شفتيْ حينما تتوقف الحافلة فجأة فيخرج الكلب من بيته الخشبي لينبح، فتلوح صورة أحدهم الذي أراد الاختلاء بصديقته الشقراء فلم يجد ملاذاً غير حديقة أحد البيوت في هذا المكان، وفي غمرة العناق داهمهما الكلب ففرا هاربين. بقي يتأسف طوال حياته على محفظته التي سقطت من جيبه لأنه تسلم من أخيه 300 مائة دولار ويضحك قائلاً:
تمر الحافلة من قرب مختبر الأفلام Film Laborحيث شاهدت فلم (زوجة رجل مهم) مع مدير التصوير محسن أحمد إذ اكتشف أثناء المشاهدة بأن أحمد زكي رجل وسيم. ثم أخبرني بأن سيدة عراقية تعمل في المختبر، ذهبت لأراها وبقيت صورتها راسخة في ذهني فكانت ترتدي تنورة قصيرة جدا تكشف عن فخذيها بشكل لافت للنظر، يشاركها في العمل شاب مجري أصغر منها بسنوات عديدة طلبتْ منه أن يهديني قارورة مختبر جميلة. عرفنا بعد فترة أنها سافرت معه إلى دولة غربية طلباً الى اللجوء فيها.
وصلت الحافلة إلى مفترق الطرق المؤدي إلى نهاية الخط، فانطفأ شعاع الذاكرة، لكني أبحث الآن عن شعاع يبزغ من أي مكان كان، سيان عندي أكانوا اعتبروه ظاهرة طبيعية أم سماوية كظاهرة عصى موسى:
(فأوحينا إلى موسى أن إضربْ بعصاك البحر فانفلق فكان كلُّ فِرقٍ كالطود العظيم)
لابد من شعاع يضيء الجانب المعتم تحت الضلوع ويقشع الحسرة المكتومة.
اعتقال الطائي. بودابست
يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا
10-04-2022 04:03
لا يوجد اقتباسات