رهان و شيطان

رهان و شيطان


     في غمرة العتمة وسكون الليل وقفت وسط الزقاق المظلم، كان هذا في احدى الأمسيات الهادئة  و اللاهبة وانا في طريق العودة من بيت صديقي سيروان، الواقع على الجانب الغربي من منزلنا. لم اكن استوعب سبب هذا الظلام الدامس الطافي على هذه البقعة الصغيرة في زقاقنا، وكأن المكان مخصص من أجل تعذيب النفس البشرية. وفجأة شعرت بحاجة ملحة الى التبول، و كطفل صغير في التاسعة من عمره لا يزال عقله طريا رغم المسافة إلى منزلنا التي لا يستغرق تجاوزها على ما اظن ثلاثين مترا إلا أنني اتخذت قراري وبدون وعي أخرجت عضوي الذكري الصغير وتبولت، ودون الاخذ بنظر الاعتبار في تلك اللحظة بأنني كنت في وضع غير طبيعي بسبب خطورة الشياطين وظهورها. هذه الشياطين الذين يظهرون في كل مكان ويراقبون مليارات الناس على الأرض، او ربما يترصدون فقط اولئك الذين يعانون من عثرات الزمن في مسيرة حياتهم. 

   هيمن الصمت على أجواء الليل الكالح عند هذه المساحة المحددة من ساحة حرب مفتعلة لا تُرى. وفي اختناق السكون لا تسمع سوى خرير البول كلما تدفقت خيوطه. البول كان سلاحي الأقوى في مواجهة هذا الصخب الأصم. كنت أعيش حالة طوارئ غير معلن، وهذا ما  جعلني ان اكون في حالة تأهب قصوى في مواجهة الشياطين حالما تبلغ رائحة بولي الى انوفهم، فتوقظهم من مضاجعهم متأهبين للغزو، حيث يهبون مستفزين بإسراع الخطى نحوي ويحفون بيَّ كي لا اجد سبيلا إلى الهرب.

    كنت اجول بنظري لوهلة هنا وهناك في هذا المكان المُعتم، بل عينايَّ تنظران يمنة ويسرة بتوجس، تحسبا لأحدهم ان يقفز على اكتافي وهذا يعني اصبحت قاب قوسين او ادنى بين فكي الشيطان، سوف يمسك بخناقي ويثقل انفاسي حتى ينال مني، والافظع من الموت هو ان اصبح مقطع الاوصال وهم ينهشون جسدي ويرمونني اشلاء مثناثرة ويلتهمونني، لانني ازدريت بقدراتهم وتحديت جبروتهم بينما انا لست سوى طفل صغير من بني انسان. أليس هو الشيطان الملعون الذي يقوم باغوائِنا و تحريضنا على ارتكاب الفواحش، ويلهينا على أداء وظائفنا بشكل مستقيم؟. 

    تلك لحظات قصار جعلتني ان اشعر ولاول مرة بتردد الانفاس وخفقان القلب. وفي لحظة أخرى تنبهت ان الصمت ظل هو السائد. لم أسمع أصداء القضقضة الشيطانية التي كانت والدتي تلقنها لي و تدسها في رأسي كلما واجهتها ألصعوبة في كبح جماح مشاجراتنا اليومية. 

    كان هذا التحدي بمثابة صرخة ضد التضليل والافتراء، ضد هذه اللعبة الخرافية الهدامة وخطوة نحو تحرير العقل من قيود الاوهام  وانسلاخ عن الذات ورغبة ملتهبة نحو المعرفة وجليَّةُ الأَمرِ.  

    كانت لحظات مصيرية لطفل وقع في الخطيئة يجب ان يعاقب عليها. حيث قمت بعمل ينافي العقيدة، حين لقنتني والدتي أن لا أتبول في سواد الليل، لأن ذلك يؤدي إلى تجمع الشياطين حولي، ورغم ذلك عصيت كلام أمي. بل ربما هذا العصيان كان قد يجلب بسببه على الحي مصائب الدنيا وكوارثها. فكل ما يصيبنا من سوء الحظ فهو من رِجْسِ الشيطان. لأنه هو الاقوى والاعظم والقادر على كسر شوكة الانسان. هذا الانسان الذي تمكن من الوصول الى القمر واكتشاف خبايا الطبيعة والغوص في بحر العلوم والتكنولوجيا. 

    عندما انتهيت من مهمتي الصعبة، أردت أن اهرب ولكن توقفت لوهلة و تذكرت تلك الليلة عندما داهمني وبشكل مفاجيء كلب اسود في مدخل الزقاق وراح ينبح بشراسة و كأنه التقى أخيرا بمنافسه واعتراه الرغبة في الانتقام. حاولت الهرب ولكن مشاهدتي للكلب وهو يلم شتاته من أجل اللحاق بي، استبد بيّ الهلع ووقفت مرتعدا، بينما الكلب وقف متشبثاً في مكانه مع جل استمراره في النباح. كنت مذعورا حد اللعنة. حاورت نفسي وجمعت عصارة ذهني وفكرت ان أخفض من وقع اقدامي وانا اخطو خطواتي بتثاؤب. ففكرت ان لا اقع في فخ الشياطين واهرب بعيداً وحينها قد يلاحقونني  حد الدار و يدخلون المنزل معي  ويقضون على عائلتي ايضا. 

    انتهيت من التبول، ثم تحركت قليلا والتفتُّ حولي : لماذا يلوذ الشياطين بالصمت؟. اين هم؟. هل يخشون طفلا لا حولة ولا قوة؟. شعرت بخفة وانا احرك قدميَّ وكأن الأرض فقدت خاصيتها المغناطيسية ورحت امشي في الهواء. غادرت المكان بحذر وأناة، حتى وصلت الى باب الدار. ادرت رأسي وألقيت نظرة فاحصة من خلف كتفي تحققا من أن الشياطين يمضون في أثري، لم اجد منهم احداً في الأرجاء. شعرت ان الزهو قد ملأ صدري ، وكأن ثقلا كبيرا قد سقط عن عاتقي، حيث تلاشت تلك الفكرة عن منع التبول في الظلام وعن جمهور الشياطين. وعندما دخلت البيت و رويت لامي عن إنجازي العظيم في معركتي الوهمية مع مخلوقات غير مرئية. نعم كان ذلك من دواعي المعجزات بالنسبة لي كطفل صغير تحدى الشيطان. وشرحت بالتفصيل لها حول ما قمت به وأن الشياطين فقدوا الجرأة على الظهور. ورغم ذلك اصرت والدتي على وجودهم ولكن لم تغضب مني على فعلتي. ومنذ ذلك الوقت عرفت ان كل ما يدور الحديث عن شيء اسمه الشيطان ما هو إلا هراء مقيت.

 

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

جمعة عبدالله

22-01-2022 01:09

القاص القدير الاستاذ كفاح الزهاوي ...........

هذا الشغاف المرهف في الحدث السردي , يملك خلفية عميقة الدلالة والمعنى . نعم أمهاتنا وجداتنا حشت رؤوسنا وعقولنا الى التخمة , بحكايات الخرافية  عن الشيطان  و ( الطنطل ) و ( السعلوه ) , بأنهم يتحركون في العتمة والظلام , وهم موجودون   في كل مكان من هذا الظلام يصيدون من يقع او يمشي في هذه المناطق الظلمة والمحيفة بالصمت , مما خلقوا الخوف والرعب والقلق من العتمة والظلام في نفوسنا . لذلك ان خوف هذا الطفل ( تسع سنوات ) هو المردود الفعلي لموروثات  الخرافات الحكايات , ولكن بالنتيجة النهائية تغلب على خوفه ورعبه في الوصول سالماً الى بيته دون أثر لمتابعة الشياطين له الذين يتجولون بحرية في العتمة والظلام , اي أنه انتصر على خوفه وهواجسه القلقة , وهذا يعني بالدليل القاطع بأن هذه حكايات الخرافات  عن وجود الشياطين في الظلام ماهو إلا وهم وهراء ..................

ولكن في واقعنا الموجود والفعلي أن الشياطين والطناطل والسعلوات موجودون ,  يتجولون بحرية في النهار وتحت ضياء الشمس , وهم موجودون كحقيقة دامغة في النخبة السياسية الفاسدة التي نهبت البلاد والعباد . وهم يشكلون الخطر الحقيقي للحياة والوجود اكثر من الشياطين والطناطل والسعلوات  ......................

تحياتي صديقي العزيز

كفاح الزهاوي

23-01-2022 01:08

الكاتب والناقد القدير الاستاذ جمعة عبدالله تحية طيبة
شكرا على المداخلة القيمة التي اغنت باضافتها جوهر النص. نعم انا ذكرت في نصي السابق خفافيش اخر الليل (الخفافيش  ادخلوهم في دهاليز الأوهام، بأن الشياطين المرئية بهيئة البشر، ملاكا تحيطه هالة من النور،  تبعدهم عن شر الشياطين غير المرئية). دمت مبدعا ومتالقا صديقي الاعز

التعليقات

إدراج الإقتباسات...