كوابيس السَّيد مسْجون

كوابيس السَّيد مسْجون


 

نعم.. بلا شك كنتُ أعلم أنني سأصلُ إلى نهايتي الأليمة. لأن قرار اعدامي قد صدر في الحلم الأخير، ولم يتبق سوى تنفيذه كما أخبرني السجّان وهو يضحك ساعتها. ولو أنني علمت أيها الأصدقاء أن الأحلام تلك كانت ستؤدي بي إلى حتفي لما نمتُ أصلاً.. ياله من حظ عاثر..؟!. الآخرون ينامون مرتاحين وأنا أواجه لحظتها مصيري المشؤوم. ولم يخالجني شكٌّ أن اسمي الذي اطلقه عليَّ والدي هو سبب نحسي. من يسمي ولده باسم "مسجون"؟!. قيل لدفع الحسد والعين، وأن حياة الانسان ستكون عكس اسمه كما هو متعارف عليه. الآن تأكد لي أنها ترهات، فأنا عشتُ مسجوناً منذ أن زارني أول حلم في حياتي. صحيح أن أحلامي السابقة كانت عبارة عن سجون بسيطة وسهلة، ولم تكن بهذا الشكل المريع الذي تورطت فيه مؤخراً. وكلما صحوت من كابوس قررت أن أغيّر اسمي، لأنني أعلم مادام هذا الاسم ملتصقاً بي، ويناديني به الناس، مسجون جاء مسجون راح، مسجون قام مسجون جلس، فلن تقوم لي قائمة ولن أهنأ بحياتي أبداً.. ولكن..!  أليس خيار السجن ربما أفضل من الإعدام؟!. لقد حدث هذا معي في أول حلم حلمته من هذا النوع، حين اقتادني في عالم المنام رجالُ أمن بعد أن تطاولت على (القائد العام للكوابيس المسلحة). كنتُ جالساً في مقهى عام وظهرت صورته في الشاشة، فضحكت وسخرت منه، فلم يلبث الجالسون في المقهى إلا واختفوا الواحد تلو الآخر وتشتتوا كما يتشتت البخار في الهواء. وذلك لأنهم غادروا الحلم بعد أن استيقظوا من نومهم، أما أنا لم أصحُ وبقيت عنيداً في حلمي، حتى جاء رجال الأمن وألقوا القبض عليّ. وبعد سؤال وجواب وتحقيقات وضرب وإهانة، دقَّ جرس الحلم ثم تبخّر المحقق والرجال والكراسي، والجلاد الذي كان خالعاً قميصه ويجلدني لكي اعترف، كلهم تبخروا فقد أنتهى حلم تلك الليلة. وصحوت من النوم على فراشي، وأنا أشعر بآلام الضرب على رأسي وظهري حتى بعد يقظتي..

في ليلة أخرى أيها الأصدقاء، لم يخيّل لي أنني سأعودُ مجدداً إلى ذلك العالم. قلتُ في نفسي إنه مجرد كابوس عادي كحال الكوابيس التي تداهمنا أثناء النوم. ولكنني هذه المرة وجدتني مرمياً في زنزانة مع مساجين مثلي. يئنون من شدة التعذيب لاستخراج اعترافات أشهرها التآمر على حكومة القائد. وحين استفسرت منهم ظهر أنهم مثلي كانوا يحلمون، ورمى بهم القدر في هذا العالم الموحش. وكان سبب اجتماعنا هو النكوص في حرب كابوسية كان القائد قد شنّها. لقد كنّا جنوداً من عدة فصائل اجتمعنا في تلك الزنزانة، ولم نتمالك أنفسنا في ساحة الحرب ونحن نرى الجثث تتطاير هنا وهناك فحاولنا الهروب فأمسكوا بنا..  قبل أن يمسكوا بي مرت قذيفة دبابة معادية من فوق رأسي، اخترقت جدار الحلم محدثة فجوة عميقة. مددت رأسي من خلالها وحاولت الهروب، لكن أحد الضباط أمسك بي وأنا أحاول، وألقى بي في السجن بتهمة الفرار من المعركة. لقد كان ذلك الكابوس مليئاً بالبارود والنار والدخان ورائحة الجثث. وكنتُ حين يلفني الخوف من كل جانب أجلس القرفصاء، وأردد بيني وبين نفسي( إنه حلم .. مجرد حلم). لم أكن أنوي فقدان حياتي بالطبع، لا في الحرب ولا في سجون القائد، فالحياة عزيزة ولا يشعر بثمنها أحد إلا حين يعيش في كابوس رهيب، فهناك تتجلى صورة الحياة أمامه حين يكون كلّ مراده أن يصحو من منامه وحسب. وهذا ماكنت أتمناه حين ربطونا على أعمدة، وقرّر الضابط إعدامنا بتهمة الهروب من معركة القائد العام للكوابيس المسلحة. حين أغمضوا عينيّ بعصابة ولم أعد أرى بل أسمع فقط أصوات فرقة الإعدام، وأصوات أقسام البنادق التي سحبوها استعداداً لإطلاق رصاصاتهم نحونا. هناك حدثت معجزة حلمية كنتُ أنتظرها، فقد دقّ جرس الحلم وتبخرت العصابة من على عينيّ، ثم رأيت أفراد فرقة الإعدام وهم يتبخرون مع بنادقهم، والضابط الذي كان يقف إلى جانبهم، والعمود المربوط عليه، ومن كانوا معي من الجنود الحالمين. وصحوت من نومي صباحاً وقد كان أنفي مليئاً برائحة البارود والحرائق..

ثم جاءت الأخبار المفرحة أيها الأصدقاء في حلم آخر. فالأخبار الجيدة والمزيّفة أيضاً لا تأتي في الواقع وحسب بل حتى في الأحلام كما تعلمون. ففي حلم لاحق انتشر خبر موت القائد، فعمَّ التظاهرُ بالحزن والانكسار بين أهل المدينة، لكنني خرجتُ لوحدي في حلمي عارياً أرقص في الشارع ولم أستح، بعد أن خلعت الملابس الشاحبة التي كان قد فرضها القائد علينا سابقاً. وما هي إلا دقائق حتى أمسك بي رجال الأمن الذين خرجوا لا أعلم من أين. ثم اقتادوني من دون أن ينطقوا بكلمة ورموا بي في زنزانة!. ماذا يحدث ؟!. ألم يمت القائد وخلصنا منه؟!. هكذا ناديت بأعلى صوتي في وسط الزنزانة. وجاءني الجواب بعد دقائق على لسان (ابن القائد) ذاته، فقد خطب في التلفاز وسمعتُ خطابه عبر مكبرات الصوت في السجن قائلاً: (شعبنا الكابوسي العظيم.. أبي لم يمت ولن يموت.. هو بصحة جيدة وسأستلم مقاليد السلطة بشكل مؤقت.. سنحاسب الخونة)

وماهي إلا ثوان وإذا بجدران السجن قد اختفت وتحول المكان إلى محكمة. المنصة يجلس خلفها ابن القائد مرتدياً زي القضاة. والجمهور الذي كان يجلس على كراسي المحكمة كانوا نسخة مكررة منه. بل حتى السجّانين الذين يقفون على جانبي قفص الاتهام كانوا هو. وقف ابن القائد الذي كان يرتدي ملابس المدّعي العام، ووجه لي التهمة بالخيانة حين أعلنت فرحي بموت القائد العام للكوابيس. هتف الجمهور (خائن.. خائن). ضرب ابن القائد الذي كان يرتدي ملابس القاضي بالمطرقة واسكتهم، ثم أعلن الحكم بحقي.. الموت شنقاً.. ربما كانت ضحكاتي التي اطلقتها عالياً مستفزة لهم. فبعد صدور الحكم صحتُ ساخراً ( إنه كابوس.. سينتهي وشيكاً ويدقُّ جرس الحلم وينتهي كل شيء). الغريب أنهم حين أنهيت عبارتي ضحكوا جميعاً ضحكة واحدة متناسقة ومتشابهة ثم انصرفوا!!. وعشتُ أصعب اللحظات أنا عالق في ذلك العالم. في كل لحظة أقول سينتهي كل شيء، ويدق الجرس ويتبخر السجّانون والسجن ولكن بلا جدوى!. لقد كانت هذه أمنيتي وأنا أسير إلى منصة الإعدام. أن أصحو من هذا الكابوس المقرف وأعود إلى فراشي وأمارس حياتي كما كنت، ولكن لم يحدث هذا.. ثمّ قرأ عليّ الجلاد الحكم الصادر بحقي وعلقوا في رقبتي الحبل. في تلك اللحظة حدث أخيراً ما كنت أصبو إليه.. إنه الجرس..!!. سمعتُ صوته بوضوح وكاد قلبي يقفز من صدري كما يقفز الأرنب. لقد أنتهى هذا الحلم وليس بيني وبين الصحو سوى لحظات. فاحتلت بدني سكينة وابتسمت، وللحظة فكرّت بشكل جدّي أن أغير اسمي نهائياً. حين أصحو من الحلم هذا مباشرة سأغيره بشكل كامل، حتى لو تطلب الأمر مني الهجرة إلى مدينة بعيدة لا يعرفون شيئاً عن اسمي القديم، وربما أعود بعد سنوات حين يتغير الناس الذين عرفوني بهذا الاسم من قبل، فيكونوا قد نسوني وأبناؤهم ولن ينادوني "مسجون" بعد هذا.. فرحت كثيراً وشعرت أن الحياة في انتظاري حين بدأ الكابوس بالتآكل، حيث رأيت جيداً السجّانين والجلّاد وهم يتبخرون، والجدران والسقف والخشبة التي كنتُ أقف عليها مربوط اليدين والحبل في عنقي. لقد تبخّر كلُّ شيء ماعدا الحبل الذي ضاق حول عنقي، والأصفاد التي أُقفِلت بإحكام على معصميّ؟!. ماذا يحدث؟! هناك خطأ ما؟!. لماذا لا يتلاشى هذا الحبل اللعين؟!.. تهاويت إلى الأسفل معلقاً به بعد أن تلاشت الخشبة التي كنتُ واقفاً عليها، وصرت أرفسُ بساقيّ بقوة حيث لم أعد أقوى على التنفّس.. لقد كنتُ مرعوباً ولكنني لم أعرف أنني سأنجو من كل السجون التي خلفتها ورائي. سجون الواقع والكوابيس وحتى اسمي نجوت من لعنته ولم يعد مؤثراً. ولكم ضحكتُ على تقرير الطبيب الشرعي، حيث عثروا على جثتي في فراشي يومها، ولم يتوصل إلى معرفة سبب موتي وأنا نائم سوى أن "السيد مسجون" قد مات مختنقاً أثناء نومه.. هو لم يعرف لكنكم عرفتم بعد أن جاء دوري في سرد حكاية موتي أيها الأصدقاء.. صحيح هي حكاية غريبة، فأغلبكم قد مات في الواقع بحوادث حقيقية وطبيعية، ولكن صدقوني ليس هناك ماهو أغرب من أن يموت الإنسان بسبب أحلامه كما حدث معي..

تقييم النص

يجب تسجيل الدخول أو التسجيل كي تتمكن من الرد هنا

التعليقات

جمعة عبدالله

26-11-2021 11:10

القاص القدير

براعة متناهية في اسلوبية نهج الواقعية الجديدة الحرة في تداعياتها في احداثها الدراماتيكية المتسارعة  , التي لا تترك  للقارى  ان يتنفس الصعداء , بأن هذه الاحلام الكابوسية لعالم وحشي ومفترس , مدجج بالارهاب والبطش وشن الحروب العبثية , والانتهاكات الصارخة لحياة الانسان , من قبل القائد العام للكوابيس المسلحة , وسجانه وامنه ومخابراته وجلاديه , هم ادوات ربورتية بالتنفيذ فقط لعمليات التعذيب والموت والاعدام , ان ينفذوا وصايا هذا القائد الاهوج والارعن , الذي يثير الموت والرعب في نفوس المواطنين  لمجرد حلم , فهم سجناء واسمهم الحقيقي ( مسجونون ) وكل شخص يشعر ان اسمه الحقيقي ( مسجون ) وهذه نتيجة طبيعية ومنطقية لهذه  الاحلام الكابوسية , لانها افرازات الواقعي الفعلي الذي يمشي على الارض , بأن الموت والاعدام يلوح في الحلم واليقظة وفي كل مكان . ولكن رغم  الرعب الوحشي لم يدع النظام الباطش ان يتركهم في المنام  يأخذون قسطاً من الراحة , بل يلاحقهم بالاحلام الكابوسية .في المنام .  تداهم النائم كوابيس بأنه على وشك الموت والاعدام . هذه حقيقة النظامي الطاغي الفاسد السابق  , وما فرحة الناس بموت القائد العام للكوابيس المسلحة , ماهي إلا اوهام فورثه أبنه او يصنف اخر  , هذا يدل بان القائد العام للكوابيس المسلحة حي  لم يمت ,   بل وروحه استنسخت شكلها ومضمونها  في ارواح جديدة وهذا ما يشير اليه  بوضوح واقعنا الحالي , بأنه نسخة طبق الاصل من السابق . بأن الموت والاعدام وتكميم الافواه وكواتم الصوت تتجول بكل حرية  , تلوح فوق رقاب الجميع  , وما على المواطن سوى ان يتقبل  الموت والاعدام . هذا النص في القصة القصيرة في احداث السرد الدراماتيكي , ليس حكايات فنتازية او غربية أو سريالية , وانما من صلب الواقع الفعلي .

تحياتي ايها الصديق العزيز

التعليقات

إدراج الإقتباسات...